211 - فصل
الضرب الثالث : ما فتح صلحا
وهذا نوعان : أحدهما : أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها ، أو يصالحهم على مال يبذلونه وهي الهدنة ، فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها ؛ لأن الدار لهم كما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران ولم يشترط عليهم ألا يحدثوا كنيسة ولا ديرا .
النوع الثاني : أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ، ويؤدون الجزية إلينا .
فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من تبقية وإحداث وعمارة ؛ لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم .
والواجب عند القدرة أن يصالحوا على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه ، ويشترط عليهم الشروط المكتوبة في كتاب : [ ص: 1203 ] " ألا يحدثوا بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية " . فلو وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عبد الرحمن بن غنم عمر ، وأخذوا بشروطه ؛ لأنها صارت كالشرع ، فيحمل مطلق صلح الأئمة بعده عليها .
212 - [ فصل ]
ذكر نصوص أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب .
قال الخلال في كتاب " أحكام أهل الملل " باب الحكم فيما أحدثته النصارى مما لم يصالحوا عليه :
أخبرنا عبد الله بن أحمد قال : كان المتوكل [ إذا ] حدث من أمر النصارى ما حدث كتب إلى القضاة ببغداد يسألهم ، وغيره ، فكتبوا إليه واختلفوا ، فلما قرئ عليه قال : أكتب بما أجاب به هؤلاء إلى أبي حسان الزيادي ليكتب إلي بما يرى في ذلك . أحمد بن حنبل
قال عبد الله : ولم يكن في أولئك الذين كتبوا أحد يحتج بالحديث إلا [ ص: 1204 ] ، واحتج بأحاديث عن أبا حسان الزيادي . فلما قرئ على الواقدي أبي عرفه وقال : هذا جواب أبي حسان ، وقال : هذه أحاديث ضعاف ، فأجابه أبي واحتج بحديث رضي الله عنهما ، فقال : ثنا ابن عباس معمر بن سليمان التيمي ، عن أبيه ، عن ، عن حنش عكرمة قال : سئل عن أمصار العرب - أو دار العرب - هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا ؟ فقال : " أيما مصر مصرته العرب . . . " فذكر الحديث . ابن عباس
قال : وسمعت أبي يقول : لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا ، وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين ، على حديث ليس : " أيما مصر مصره المسلمون " . ابن عباس
أخبرنا حمزة بن القاسم وعبد الله بن حنبل وعصمة قالوا : حدثنا حنبل ، قال أبو عبد الله : " وإذا كانت الكنائس صلحا تركوا على ما صولحوا عليه ، فأما العنوة فلا ، وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لم تكن ، ولا يضربوا ناقوسا ، ولا يرفعوا صليبا ، ولا يظهروا خنزيرا ، ولا يرفعوا نارا ولا [ ص: 1205 ] شيئا مما يجوز لهم فعله في دينهم ، يمنعون من ذلك ولا يتركون " .
قلت : للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك ؟ قال : " نعم ، على الإمام منعهم من ذلك . السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوة ! وأما الصلح فلهم ما صولحوا عليه يوفى لهم " .
وقال : " الإسلام يعلو ولا يعلى ، ولا يظهرون خمرا " .
قال الخلال : كتب إلي يوسف بن عبد الله الإسكافي : ثنا الحسن بن علي بن الحسن أنه سأل أبا عبد الله عن البيعة والكنيسة تحدث ، قال : " يرفع أمرها إلى السلطان " .
[ ص: 1206 ] وقال محمد بن الحسن : " لا ينبغي أن يترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ، ولا يباع فيها خمر وخنزير ، ومصرا كان أو قرية " .
وقال في " المختصر " : " ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعا لصلواتهم ، ولا يظهروا فيها حمل خمر ولا إدخال خنزير ، ولا يحدثوا بناء يطولون به على بناء المسلمين ، وأن يفرقوا بين هيئاتهم في المركب والملبس وبين هيئات المسلمين ، وأن يعقدوا الزنار على أوساطهم ، ولا يدخلوا مسجدا ، ولا يسقوا مسلما خمرا ، ولا يطعموه خنزيرا . الشافعي
وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين لم يعرض لهم في خمرهم وخنازيرهم ورفع بنيانهم ، ، وترك على ما وجد ومنعوا من إحداث مثله . وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسة أو بناء طويل كبناء المسلمين ، لم يكن للمسلمين هدم ذلك
وهذا إذا كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة ، وشرط هذا على أهل الذمة .
وإن كانوا فتحوا بلادهم على صلح منهم على تركهم وإياه خلوا وإياه ، ولا يجوز أن يصالحوا على أن ينزلوا بلاد الإسلام يحدثون فيها ذلك " .
قال صاحب " النهاية " في شرحه : " البلاد قسمان : بلدة ابتناها [ ص: 1207 ] المسلمون فلا يمكن أهل الذمة من إحداث كنيسة فيها ولا بيت نار ، فإن فعلوا نقض عليهم ، فإن فهذا قسمان : فإن فتحه المسلمون عنوة وملكوا رقاب الأبنية والعراص تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس ، وإذا كنا ننقض ما نصادف من الكنائس والبيع فلا يخفى أنا نمنعهم من استحداث مثلها . كان البلد للكفار وجرى فيه حكم للمسلمين
ولو رأى الإمام أن يبقي كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب فالذي قطع به الأصحاب منع ذلك وذكر العراقيون وجهين :
أحدهما : أنه يجوز للإمام أن يقرهم ويبقي الكنيسة عليهم .
والثاني : لا يجوز ذلك ، وهو الأصح الذي قطع به المراوزة .
هذا إذا فتحنا البلد عنوة ، فإن فتحناها صلحا فهذا ينقسم قسمين :
أحدهما : أن يقع الفتح على أن رقاب الأراضي للمسلمين ، ويقرون فيها بمال يؤدونه لسكناها سوى الجزية ، فإن استثنوا في الصلح البيع والكنائس لم ينقض عليهم ، وإن أطلقوا وما استثنوا بيعهم وكنائسهم ففي المسألة وجهان :
أحدهما : أنها تنقض عليهم ؛ لأن المسلمين ملكوا رقاب الأبنية والبيع والكنائس تغنم كما تغنم الدور .
[ ص: 1208 ] والثاني : لا نملكها ؛ لأنا شرطنا تقريرهم ، وقد لا يتمكنون من المقام إلا بتبقية مجتمع لهم فيما يرونه عبادة ، وحقيقة الخلاف ترجع إلى أن اللفظ في مطلق " الصلح " هل يتناول البيع والكنائس مع القرائن التي ذكرناها ؟
القسم الثاني : أن يفتحها المسلمون على أن تكون رقاب الأرض لهم ، فإذا وقع الصلح كذلك لم يتعرض للبيع والكنائس ، ولو أرادوا إحداث كنائس فالمذهب أنهم لا يمنعون فإنهم منصرفون في أملاكهم .
وأبعد بعض أصحابنا فمنعهم من استحداث ما لم يكن ، فإنه إحداث بيعة في بلد هي تحت حكم الإسلام " .