189 - فصل
[ ] . الخلاف في خلق الأجساد قبل الأرواح ، أو العكس
وأما قول إسحاق : إن العلماء أجمعوا على أن قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) أنها الأرواح قبل الأجساد ، فإسحاق - رحمه الله تعالى - قال بما بلغه ، وانتهى إلى علمه ، وليس ذلك بإجماع ، فقد اختلف الناس : هل خلقت الأجساد قبل الأرواح ، أو [ ص: 1058 ] معها ؟ على قولين حكاهما شيخنا ، وغيره .
وهل معنى الآية أخذ الذرية بعضهم من بعض ، وإشهادهم بما فطرهم عليه ، أو إخراجهم من ظهر آدم واستنطاقهم ؟ على قولين مشهورين .
والذين قالوا : " إن الأرواح خلقت قبل الأجساد " ليس معهم نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ، وغاية ما معهم قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) الآية ، وقد علم أنها لا تدل على ذلك .
وأما الأحاديث التي فيها أنه " أخرجهم مثل الذر " ، فهذا هل هو أشباحهم أو أمثالهم ؟ فيه قولان ، وليس فيها صريح بأنها أرواحهم .
والذي دل عليه القرآن ، والسنة ، والاعتبار أن الأرواح إنما خلقت مع الأجساد ، أو بعدها ، فإن الله سبحانه خلق جسد آدم قبل روحه ، فلما سواه وأكمل خلقه نفخ فيه من روحه ، فكان تعلق الروح به بعد خلق جسده .
وكذلك سنته سبحانه في خلق أولاده كما دل عليه حديث المتفق على صحته قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " عبد الله بن مسعود
[ نطفة ] ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم ينفخ فيه الروح " . إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما
وقد غلط بعض الناس حيث ظن أن ، وأنها كانت موجودة قبل ذلك ، ونفخها تعلقها به ، وليس ذلك مراد الحديث ، بل إذا تكامل خلق الجنين أرسل الله إليه الملك فنفخ فيه نفخة ، فتحدث الروح بتلك النفخة ، فحينئذ حدثت له الروح بواسطة النفخة . نفخ الروح إرسال الروح [ ص: 1059 ] وبعثها إليه
وكذلك كان خلق المسيح : أرسل الله الملك إلى أمه ، فنفخ في فرجها نفخة فحملت بالمسيح ، كما قال تعالى : ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ) .
وهذا صريح في إبطال قول من قال : " إن هذه الروح التي خاطبها هي روح المسيح " ، فإن روح المسيح إنما حدثت من تلك النفخة التي نفخها رسول الله ، وكيف يقول المسيح لأمه : أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ؟ وكيف يكون قوله : ( فنفخنا فيها من روحنا ) ، أي من روح ولدها ، فتكون روح المسيح هي النافخة لنفسها في [ ص: 1060 ] بطن أمه ؟ !
وهذا قول تكثر الدلائل على بطلانه ، وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة .