قال أبو عبد الله : كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أنه أمر يدعيه الصادق والكاذب ، فالحياء خير كله ، ينفع العاصي والمطيع ، أما المطيع فقد زال كل خلق دني ، وأما الفاسق فلم يجمع مع فسقه تهتكا ، وإذا هاج الحياء من المطيع ، وجد العدو سبيلا إلى الدعاء إلى الرياء ، فإن أطاعه العبد ، اعتقد الرياء ، واعتل بالحياء ، وصدق هاجه أولا الحياء ، ثم أخطر العدو بالرياء ، ولم يفطن له بقلبه ، فصار مرائيا . [ ص: 852 ] وأصله فعل من الطبيعة الكريمة ، غريزة خير يختص الله تعالى به من يشاء من خلقه ،
وقد يهيجه الحياء على أن يريد الله تعالى ، فيضم الإخلاص إلى الحياء ، فإن فعل الفعل للحياء ، وتركه لغير ذكر إخلاص ، ولا رياء ، فهو دين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما لم يكن شيء الحياء من الله أولى به فيه " .
وذلك أن يستحي العبد من إظهار المعاصي ، فيستتر حياء من الناس ، والحياء من الله أولى به ، فضيع الحياء من الله تعالى في سريرته ، واستحيى من الناس ، والحياء الذي أداه إلى الستر ، خير له من التهتك ، لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة " ، فهو يرجو ، إذ من عليه بالحياء ، فاستتر أن يستر الله تعالى عليه في الآخرة ، ويغفر له ، فالحياء مفارق لكل خلق في دين ، أو دنيا .
فمثل ذلك مثل رجل سأل رجلين قرضا ، أو صلة ، فلم يكن في قلب أحدهما كبير حياء ، فرده إذا لم تسمح نفسه بالإعطاء ، وسأل الآخر ، فلم تسمح نفسه إلا بالإعطاء ، فمنه الحياء من البخل ، فمسك عن إظهار الرياء ، وبادر ليفعل ، فوجد العدو موضع دعاء ، فقال : أعطه ، لا يقول : ما أبخله ، وأعطه ليثني عليك به ، ويعظمك به ، فاعتقد ذلك ، وأعطى ، ولا شك في أنه أعطى للحياء لبدو هيجان الحياء من نفسه ، فإن هو لما خطر خاطر الرياء نفاه ، وقال : لا ، بل لله ، أو لما رأى نفسه امتنعت من [ ص: 853 ] الرد من أجل الحياء ذكر ثواب الله تعالى ، فأزاده ، ولولا الحياء لرد صاحبه ، ولو أنه أخلص الإعطاء شكرا لمن جعل غريزته تهيج بالحياء ، ولمن وهب له الحياء ، ولم يجعله كمن لا يستحي دون طلب الثواب لكان الله تعالى يستحق ذلك .
وآخر سئل ، فهاج منه من الحياء ما لم يملكه ، فأعطى عليه ، ولم يقبل حضره رياء ، ولم يذكر ثوابا .
وما أقل ذلك أن يعطي عبدا ، أو يعمل ، أو يترك إلا لرغبة أو رهبة ، فإن أعطى على ذلك الحياء فهو خير ما لم يعتقد الرياء ، ومن جمع مع الحياء إرادة الله وثوابه ، فذلك أفضل ، لأن الحياء عن غريزة كريمة ، فإذا هاجت تلك الغريزة ، فعند ذلك يعتقد الإخلاص ، أو الرياء ، أو يعمل عليهما بغير عقد رياء ، ولا إخلاص ، وكل امرئ يمكنه أن يعقل بالحياء ، وقد يخيل إلى بعض أهل الدنيا أنه مستحي ، وإنما هو مراء يستحي من أشياء مباحة ، كالاستعجال بالمشي ، والسرعة إليه بالمشي وغيره ، لأنه خروج إلى الخفة ، فيصير رياء ، وجزعا من الزوال عن الخشوع ، أو ليقال ما أخشعه ، وأسكنه .
وقد تأتي الشيء استحياء من الخلق ، والحياء من الله تعالى في ذلك أولى به ، فهو كخير أفضل من غيره من الخير ، كالرجل يرى من شيخ من المسلمين منكرا ، فيريد أن يأمره ، فيستحي من شبيبته ، فالحياء من الشيبة ، وتوقير الكبير خير ، وأفضل من ذلك [ ص: 854 ] أن يأمره وينهاه ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة " ، والحياء من الله تعالى أولى به أن نستحي من الله تعالى ، أن يضع أمره فيه فينهاه ، ويعثر عليه معصية إن رآها منه ، أو يدعه إن أظهرها ، فليؤثر الحياء من الله عز وجل على الحياء من الخلق .