[ ص: 226 ] المسألة الخامسة
ذهب الأكثرون إلى أنه ، واعتبره الأقلون وإليه ميل القاضي لا اعتبار بموافقة العامي من أهل الملة في انعقاد الإجماع ولا بمخالفته أبي بكر وهو المختار .
وذلك لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ بما دلت عليه الدلائل السمعية من قبل ، ولا يمنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة .
وإذا كان كذلك فلا يلزم أن تكون العصمة الثابتة للكل ثابتة للبعض ; لأن الحكم الثابت للجملة لا يلزم أن يكون للأفراد .
فإن قيل : يجب تخصيص ما ورد من النصوص الدالة على عصمة الأمة بأهل الحل والعقد منهم دون غيرهم لستة أوجه .
الأول : أن العامي يلزمه المصير إلى أقوال العلماء بالإجماع ، فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد فيه .
الثاني : أن الأمة إنما كان قولها حجة إذا كان ذلك مستندا إلى الاستدلال ; لأن إثبات الأحكام من غير دليل محال ، والعامي ليس أهلا للاستدلال والنظر فلا يكون قوله معتبرا كالصبي والمجنون .
الثالث : أن قول العامي في الدين من غير دليل خطأ مقطوع به ، والمقطوع بخطئه لا تأثير لموافقته ولا لمخالفته .
الرابع : أن أهل العصر الأول من الصحابة علماؤهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بموافقة العامي ولا بمخالفته .
الخامس : أن الأمة إنما عصمت عن الخطأ في استدلالها ; لأن إثبات الأحكام الشرعية من غير استدلال ودليل خطأ ، والعامي ليس هو من أهل الاستدلال ، فلا يتصور ثبوت عصمة الاستدلال في حقه .
السادس : هو أن العامي لا يتصور منه الإصابة إذا [1] كان قائلا بالحكم من غير دليل فلا يتصور عصمته ; لأن العصمة مستلزمة للإصابة .
[ ص: 227 ] والجواب عن الوجه الأول : أنه وإن كان يجب على العامي الرجوع إلى أقوال العلماء ، فليس في ذلك ما يدل على أن أقوال العلماء دونه حجة قاطعة على غيرهم من المجتهدين من بعدهم لجواز أن يكون الاحتجاج بأقوالهم على من بعدهم مشروطا بموافقة العامة لهم [2] وإن لم يكن ذلك شرطا في وجوب اتباع العامة لهم فيما يفتون به .
وعن الثاني : أنه وإن كان لا بد في الإجماع من الاستدلال ، لكن من أهل الاستدلال أو مطلقا : الأول مسلم ، والثاني ممنوع .
وعلى هذا فلا يمتنع أن تكون موافقة العامة للعلماء المستدلين شرطا في جعل الإجماع حجة وإن لم يكن العامي مستدلا [3] ، ولا يلزم من عدم اشتراط موافقة الصبيان والمجانين عدم اشتراط موافقة العامة لما بينهما من التفاوت في قرب ، وإنما المؤثر في حق العامة الموجب للتكليف ، وبعده في حق الصبيان والمجانين المانع من التكليف [4]
وعن الثالث : أنه وإن كان قول العامي في الدين من غير دليل خطأ ، فلا يمنع ذلك من كون موافقته للعلماء في أقوالهم شرطا في الاحتجاج بها على غيرهم [5] .
وعن الرابع : أنه دعوى لم يقم عليها دليل [6]
وعن الخامس : أن العامي وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يمتنع أن تكون موافقته من غير استدلال شرطا في كون الإجماع حجة .
[ ص: 228 ] وعن السادس : أنه وإن كان العامي إذا انفرد بالحكم لا يتصور منه الإصابة ، فما المانع من تصويبه مع الجماعة بتقدير موافقته لهم في أقوالهم ، ولا شك أن العامي مصيب في موافقته للعلماء ، وعلى هذا جاز أن تكون موافقته شرطا في جعل الإجماع حجة على ما سبق تقريره .
وبالجملة فهذه المسألة اجتهادية ، غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوام فيه يكون قطعيا وبدونهم يكون ظنيا [7]
وعلى هذا فمن قال بإدخال العوام في الإجماع ، قال بإدخال الفقيه الحافظ لأحكام الفروع فيه وإن لم يكن أصوليا ، وبإدخال الأصولي الذي ليس بفقيه بطريق الأولى ، لما بينهما وبين العامة من التفاوت في الأهلية وصحة النظر ، هذا في الأحكام ، وهذا في الأصول .
ومن قال بأنه لا مدخل للعوام في الإجماع اختلفوا في الفقيه والأصولي نفيا وإثباتا ، فمن أثبت نظر إلى ما اشتملا عليه من الأهلية التي لا وجود لها في العامي ، ودخولهما في عموم لفظ الأمة في الأحاديث السابق ذكرها .
ومن نفى نظر إلى عدم الأهلية المعتبرة في أئمة أهل الحل والعقد من المجتهدين ، كالشافعي وأبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد وغيرهم ، ومنهم من فصل بين الفقيه والأصولي وهؤلاء اختلفوا ، فمنهم من اعتبر قول الفقيه الذي ليس بأصولي وألغى قول الأصولي الذي ليس بفقيه .
ومنهم من عكس الحال واعتبر قول الأصولي دون الفقيه ; لكونه أقرب إلى مقصود الاجتهاد لعمله بمدارك الأحكام على اختلاف أقسامها ، وكيفية دلالاتها وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها ومفهومها ومعقولها بخلاف الفقيه .
ومن اعتبر قول الأصولي والفقيه ، اعتبر قول من بلغ رتبة الاجتهاد وإن لم يكن مشتهرا بالفتوى بطريق الأولى وذلك ونحوه ، وفيه خلاف والمتبع في ذلك كله ما غلب على ظن المجتهد . كواصل بن عطاء