وربما احتج بعض الأصحاب بقوله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) وهو تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة ، وإنما يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى التكليف ، وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار مجازاة لا دار تكليف .
وأما من جهة المعقول ، فقد احتج فيه بعضهم بحجج واهية :
الأولى منها : هو أن الفعل المكلف به إن كان مع استواء داعي العبد إلى الفعل والترك كان الفعل ممتنعا لامتناع حصول الرجحان معه ، وإن كان مع الترجيح لأحد الطرفين كان الراجح واجبا والمرجوح ممتنعا ، والتكليف بهما يكون محالا .
الثانية : أن الفعل الصادر من العبد إما أن يكون العبد متمكنا من فعله وتركه أو لا يكون ، فإن لم يكن متمكنا منه فالتكليف له بالفعل يكون تكليفا بما لا يطاق ، وإن كان متمكنا منه فإما أن لا يتوقف ترجح فعله على تركه على مرجح [ ص: 139 ] أو يتوقف ، الأول محال وإلا كان كل موجود حادثا هكذا ، ويلزم منه سد باب إثبات واجب الوجود ، وإن توقف ، فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم ، وهو تسلسل ممتنع ، وإن كان من فعل غيره فإما أن يجب وقوع الفعل أو لا يجب ، وإذا لم يجب كان ممتنعا أو جائزا ، والأول محال وإلا كان المرجح مانعا ، وإن كان الثاني عاد التقسيم بعينه وهو ممتنع ، فلم يبق سوى الوجوب ، والعبد إذ ذاك يكون مجبورا لا مخيرا ، وهو عين التكليف بما لا يطاق .
الثالثة : أن قدرة العبد غير مؤثرة في فعله [1] وإلا كانت مؤثرة فيه حال وجوده ، وفيه إيجاد الموجود أو قبل وجوده ، ويلزم من ذلك أن يكون تأثير القدرة في المقدور مغايرا له لتحقق التأثير في الزمن الأول دونه . والكلام في ذلك التأثير وتأثير مؤثره فيه كالأول ، وهو تسلسل ممتنع والقدرة غير مؤثرة في الفعل وهو المطلوب .
الرابعة : أن العبد مكلف بالفعل قبل وجود الفعل ، والقدرة غير موجودة قبل الفعل [2] ; لأنها لو وجدت لكان لها متعلق ومتعلقها لا يكون عدما لأنه نفي محض فلا يكون أثرا لها ، فكان وجودا ولزم من ذلك أن تكون موجودة مع الفعل لا قبله .
الخامسة : أن العبد لقوله تعالى : ( قل انظروا ) والنظر متوقف على القضايا الضرورية قطعا للتسلسل ، وهي متوقفة على تصور مفرداتها ، وهي غير مقدورة التحصيل ; لأنه إن كان عالما بها فتحصيل الحاصل محال ، وإن لم يكن عالما بها فطلبها محال ، فالنظر يكون ممتنع التحصيل .
وهذه الحجج ضعيفة جدا .
أما الحجة الأولى : فلقائل أن يقول : ما المانع أن يكون وجود الفعل مع رجحان الداعي إلى الفعل ، قوله : لأنه صار الفعل واجبا . قلنا : صار واجبا بالداعي إليه والاختيار له أو لذاته ، الأول مسلم والثاني ممنوع ، وعلى هذا خرج العبد عن كونه مكلفا بما لا يطاق ، ثم يلزم عليه أن تكون أفعال الرب غير مقدورة بعين ما ذكروه وهو ممتنع ، فما هو الجواب عن أفعال الله يكون مشتركا .
[ ص: 140 ] وأما الثانية فهي بعينها أيضا لازمة على أفعال الله ; إذ أمكن أن يقال : فعل الله ، إما أن لا يكون متمكنا منه أو يكون ، وهو إما أن يفتقر إلى مرجح أو لا ، وإن افتقر إلى مرجح : فإن كان من فعله عاد التقسيم ، وإن لم يكن من فعله فإما أن يجب وقوع الفعل معه أو لا يجب ، وهلم جرا إلى آخره ، والجواب يكون مشتركا .
وكذلك الثالثة أيضا لازمة على أفعال الله مع أنها مقدورة له إجماعا .
[3] وأما الرابعة : فيلزم منها أن تكون قدرة الرب تعالى حادثة موجودة مع فعله لا قبله ، وهو مع إحالته فقائل هذه الطريقة غير قائل به ، وبيان ذلك أنه أمكن أن يقال : لو وجدت قدرة الرب قبل وجود فعله لكان لها متعلق وليس متعلقها العدم ، فلم يبق غير الوجود ، ويلزم أن لا يكون قبل الفعل ، بعين ما ذكروه .
وأما الخامسة : فأشد ضعفا مما قبلها ; إذ هي مبنية على امتناع اكتساب التصورات ، وقد أبطلناه في كتاب " دقائق الحقائق " إبطالا لا ريبة فيه بما لا يحتمله هذا الكتاب ، فعلى الناظر بمراجعته ، وبتقدير أن لا تكون التصورات مكتسبة ، فالعلم بها يكون حاصلا بالضرورة . والتكليف بالنظر المستند إلى ما ينقطع التسلسل عنده من المعلومات الضرورية لا يكون تكليفا بما لا يطاق ، وهو معلوم بالضرورة ، والمعتمد في ذلك مسلكان :
المسلك الأول : أن العبد غير خالق لفعله فكان مكلفا بفعل غيره [4] وهو تكليف بما لا يطاق ، وبيان أنه غير خالق لفعله : أنه لو كان خالقا لفعله فليس خالقا له بالذات والطبع إجماعا بل بالاختيار ، والخالق بالاختيار لا بد وأن يكون مخصصا لمخلوقه بالإرادة ، ويلزم من كونه مريدا له أن يكون عالما به ضرورة ، والعبد غير عالم [ ص: 141 ] بجميع أجزاء حركاته في جميع حالاته ، ولا سيما في حالة إسراعه فلا يكون خالقا لها .
[5] المسلك الثاني : إن إجماع السلف منعقد قبل وجود المخالفين من الثنوية على أن الله تعالى مكلف بالإيمان لمن علم أنه لا يؤمن كمن مات على كفره ، وهو تكليف بما يستحيل وقوعه ; لأنه لو وقع لزم أن يكون علم الباري تعالى جهلا وهو محال .
فإن قيل : أما المسلك الأول ، وإن سلمنا أن العبد لا بد وأن يكون عالما بما يخلقه من أفعاله ، لكن من جهة الجملة أو من جهة التفصيل ، الأول لا سبيل إلى نفيه والثاني ممنوع . وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن العبد غير خالق لفعله لكنه معارض بما يدل على خلقه له ، ودليله : المعقول والمنقول .
أما المعقول : فهو أن قدرة العبد ثابتة بالإجماع منا ومنكم على فعله ، فلو لم تكن هي المؤثرة فيه لانتفى الفرق بين المقدور وغيره ، وكان المؤثر غير العبد ، ويلزم منه وجود مقدور بين قادرين [6] ولما وقع الاختلاف بين القوي والضعيف ، ولجاز أن تكون متعلقه [7] بالجواهر والألوان كما في العلم ، ولكان العبد مضطرا بما خلق فيه من الفعل لا مختارا ، [ ص: 142 ] ولجاز أن يصدر عن العبد أفعال محكمة بديعة وهو لا يشعر بها ، ولما انقسم فعله إلى طاعة ومعصية ; لأنه ليس من فعله ، ولكان الرب تعالى أضر على العبد من إبليس ; حيث إنه خلق فيه الكفر وعاقبه عليه وإبليس داع لا غير ، ولما حسن شكر العبد ولا ذمه على أفعاله ولا أمره ولا نهيه ولا عقابه ولا ثوابه ، ولكان الرب تعالى آمرا للعبد بفعل نفسه وهو قبيح معدود عند العقلاء من الجهل والحمق ، ولكان الكفر والإيمان من قضاء الله تعالى وقدره ، وهو إما أن يكون حقا أو باطلا : فإن كان حقا فالكفر حق ، وإن كان باطلا فالإيمان باطل . ولكان الرب تعالى إما راضيا به راض أو غير راض ، والأول يلزم منه الرضا بالكفر والثاني يلزم منه عدم الرضا بالإيمان ، والكل محال مخالف للإجماع .
وأما النقل فقوله تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ) ، وقوله تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) ، وقول النبي عليه السلام : " " ، وقوله عليه السلام : " اعملوا وقاربوا وسددوا نية المؤمن خير من عمله " إلى غير ذلك من النصوص الدالة على نسبة العمل إلى العبد .
والعقلاء متوافقون على إطلاق إضافة الفعل إلى العبد بقولهم : فلان فعل كذا وكذا ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .
وأما المسلك الثاني : فهو أن تعلق علم الباري تعالى بالفعل أو بعدمه إما أن يكون موجبا لوجود ما علم وجوده وامتناع وجود ما علم عدمه ، أو لا يكون كذلك .
فإن كان الأول فيلزمه محالات : وهو أن يكون العلم هو القدرة ، أو أن يستغنى به عن القدرة ، ولا يكون الرب قادرا على إيجاد شيء أو عدمه ، وأن لا يكون للرب اختيار ، ولا للعبد في وجود فعل من الأفعال لكونه واجبا بالعلم أو ممتنعا ، وإن لم يكن موجبا للوجود ولا للعدم فقد بطل الاستدلال ، وإن سلم ذلك لكنه معارض بما سبق من الأدلة العقلية والنقلية .
والجواب عما ذكروه أولا عن المسلك الأول بأن الفعل المخلوق للعبد بتقدير خلقه له مخلوق بجميع أجزائه ، وكل جزء منه مخلوق له بانفراده ، فيجب أن [ ص: 143 ] يكون عالما به لما سبق ، وهذا هو العلم بالتفصيل ، وهو غير عالم لما حققناه [8] .
وعما ذكروه من الإلزام الأول بمنع عدم الفرق بين المقدور وغيره .
وعن الثاني : أنه إنما يمتنع وجود مقدور بين قادرين خالقين أو مكتسبين ، أما بين خالق ومكتسب فهو غير مسلم .
[9] وعن الثالث : بأن الاختلاف بين القوي والضعيف إنما هو واقع في كثرة ما يخلقه الله تعالى من القدرة على المقدورات في أحد الشخصين دون الآخر ، لا في التأثير .
وعن الرابع : أنه إنما يلزم أن لو كان تعلق العلم بالجواهر والأعراض من جهة كونه غير مؤثر فيها [10] ، وهو غير مسلم .
وعن الخامس : أنه إنما يلزم أن يكون العبد مضطرا أن لو لم يكن فعله مكتسبا له ومقدورا ، ولا يلزم من عدم التأثير عدم الاكتساب .
[11] وعن السادس : أنه لا مانع من تلازم القدرة على الشيء والعلم به .
[12] وعن السابع : أنه لا معنى لانقسام فعل العبد إلى الطاعة والمعصية غير كونه مأمورا بهذا ومنهيا عن هذا لكسبه ، وهو كذلك .
وعن الثامن : أنه لازم على أصلهم أيضا فإن التمكن [13] من الكفر بخلق القدرة عليه أضر من الدعاء إليه ، وقد فعل الله تعالى ذلك بالعبد ، فما هو جواب لهم هو جوابنا .
وعما ذكروه من الأمر والنهي والشكر والذم والثواب والعقاب ، والأمر للعبد بما هو من فعل الله تعالى ، بالمنع من تقبيح ذلك بتقدير أن يكون قادرا غير مؤثر ، كيف وأنه مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه .
[14] وعن الإلزام بالقضاء والقدر ، أن القضاء قد يطلق بمعنى الإعلام والأمر والاختراع ، وانقضاء الأجل ، وإلزام الحكم ، وتوفية الحقوق ، والإرادة ، لغة .
[ ص: 144 ] وعلى هذا فالإيمان من قضائه بجميع هذه الاعتبارات وهو حق ، وأما الكفر فليس من قضائه بمعنى كونه مأمورا بل بمعنى خلقه وإرادة وقوعه ، وهو حق من هذا الوجه أيضا .
[15] وعن الإلزام بالرضا أنه راض بالإيمان ، وغير راض بالكفر .
وعن المنقول بأن ما ذكروه غايته إضافة الفعل إلى العبد حقيقة ، ونحن نقول به فإن الفاعل عندنا على الحقيقة هو من وقع الفعل مقدورا له [16] ، وهو أعم من الموجد .
والجواب عما ذكروه في المسلك الثاني بأن تعلق العلم بوجود الفعل بملازمة الوجود المقدور ، فإنه إنما يعلم وجوده مقدورا لا غير مقدور ، وكذلك في العدم .
وعلى هذا فلا يلزم منه عدم القدرة في حق الله تعالى ولا سلب اختياره في فعله ، وكذلك العبيد فإنه إنما علم وقوع فعل العبد مقدورا للعبد ، والمعارضات فقد سبق الجواب عنها .