[ ص: 156 ] المسألة الثانية
؟ إذا ثبت أن مذهب الصحابي ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده
أما العامي فيجوز له ذلك من غير خلاف ، وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم ، فيجوز له تقليده إن جوزنا تقليد العالم للعالم ، وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول في جواز تقليد العالم من التابعين للعالم من الصحابة ، فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في القديم ، غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارة . الشافعي
والمختار امتناع ذلك مطلقا لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى .
[1] النوع الثالث : الاستحسان
وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة ، وأنكره الباقون حتى نقل عن وأحمد بن حنبل أنه قال : من استحسن فقد شرع . الشافعي
ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول :
الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازا وامتناعا لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة .
أما الكتاب فقوله تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ، وقوله تعالى : ( وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) .
وأما السنة فقوله عليه السلام : " " . ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن
[2] [ ص: 157 ] وأما الإطلاق فما نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل ، ولا تقدير مدة السكون فيها ، وتقدير أجرته ، واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه ، وقد نقل عن أنه قال : أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما ، وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام ، وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة . وقال في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت : القياس أن تقطع يمناه ، والاستحسان أن لا تقطع . الشافعي
فلم يبق الخلاف إلا في ، ولا شك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحا عند غيره ، وهو في اللغة استفعال من الحسن ، وليس ذلك هو محز الخلاف ؛ لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع الله تعالى بشهواته وهواه ، من غير دليل شرعي ، وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك . معنى الاستحسان وحقيقته
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في تعريفه بحده فمنهم من قال : إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه ، والوجه في الكلام عليه أنه إن تردد فيه بين أن يكون دليلا محققا ووهما فاسدا فلا خلاف في امتناع التمسك به ، وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به أيضا ، وإن كان ذلك في غاية البعد ، وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ، ولا حاصل للنزاع اللفظي .
ومنهم من قال : إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ، ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب أو السنة أو العادة .
[ ص: 158 ] أما الكتاب : فكما في قول القائل : مالي صدقة ، فإن القياس لزوم التصدق بكل مال له ، وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة ) ولم يرد به سوى مال الزكاة .
وأما السنة : فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار رمضان ، والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسيا : ( ) . الله أطعمك وسقاك
وأما العادة : فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء المستعمل في الحمام ، وتقدير السكنى فيها ، ومقدار الأجرة ، كما ذكرناه فيما تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك .
ومنهم من قال : إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه .
وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة ، وقد عرف ما فيه .
[3] وقال الكرخي : الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى ، ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل المخصص ، والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس باستحسان عندهم .
وقال أبو الحسين البصري : هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه ، وهو في حكم الطارئ على الأول .
وقصد بقوله : غير شامل شمول الألفاظ في الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس لكونه لفظا شاملا .
وبقوله : ( وهو في حكم الطارئ ) الاحتراز عن قولهم : تركنا الاستحسان بالقياس ، فإنه ليس استحسانا من حيث إن القياس الذي ترك له الاستحسان ليس في حكم الطارئ بل هو الأصل ، وذلك كما لو قرأ آية سجدة في آخر سورة ، فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزئ بالركوع ، ومقتضى القياس أن يجتزئ بالركوع فإنهم قالوا بالعدول ها هنا عن الاستحسان إلى القياس .
وهذا الحد وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعا مانعا غير أن حاصله يرجع إلى تفسير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارئ [ ص: 159 ] عليه أقوى منه من نص أو إجماع أو غيره ، ولا نزاع في صحة الاحتجاج به ، وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ، ولا حاصل له ، وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة وهو أن يقال : إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأئمة من أهل الحل والعقد فهو حق .
وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع ، وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به .
وإذا تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها ، وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . القائلون بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجة مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه ، والإشارة إلى جهة ضعفها
أما الكتاب فقوله تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ، وقوله تعالى : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) .
ووجه الاحتجاج بالآية الأولى : ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول ، وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ، ولولا أنه حجة لما كان كذلك .
وأما السنة فقوله عليه السلام : ( ) ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن [4] ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسنا .
وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة .
والجواب عن الآية الأولى : أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول ، وهو محل النزاع .
وعن الآية الثانية : أنه لا دلالة أيضا فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل ، فضلا عن كونه أحسن ما أنزل .
وعن الخبر كذلك أيضا ، فإن قوله : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " إشارة إلى إجماع المسلمين ، والإجماع حجة ، ولا يكون إلا عن دليل ، وليس فيه [ ص: 160 ] دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسنا أنه حسن عند الله ، وإلا كان ما رآه آحاد العوام من المسلمين أن يكون حسنا عند الله ، وهو ممتنع .
وعن الإجماع على استحسان ما ذكروه ، لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على صحته ، بل الدليل ما دل على استحسانهم له ، وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه الصلاة السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك .
النوع الرابع : المصالح المرسلة
[5] وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها ، وانقسامها باعتبار شهادة الشارع لها إلى : معتبرة ، وملغاة ، وإلى ما لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء ، وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ، ولم يبق غير القسم الثالث ، وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل ، وهذا أوان النظر فيه .
وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به ، وهو الحق ، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ، ولعل النقل إن صح عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة ، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعا ، لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ، ولا وقوعه قطعي .
وذلك كما لو [6] تترس الكفار بجماعة من المسلمين ، بحيث لو كففنا عنهم لغلب الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ، ولو رمينا الترس وقتلناهم اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعا غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا جريمة له ، فهذا القتل وإن كان مناسبا في هذه الصورة ، والمصلحة ضرورية كلية قطعية ، غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة .
[ ص: 161 ] وإذا عرف ذلك على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها ، وإلى ما عهد منه إلغاؤها . وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين ، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ، فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار ، يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى . فالمصالح
فإن قيل : ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل ، وهو غير متصور .
وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في بعض الأحكام ، وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر ، وكان من قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم ، وقد قلتم به .
قلنا : وكما أنه من جنس المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة ، فإن كان يلزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا ، فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس المصالح الملغاة ، وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبرا ملغى بالنظر إلى حكم واحد ، وهو محال .
وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبرا بالجنس القريب منه ; لنأمن إلغاءه .
والكلام فيما إذا لم يكن كذلك .