[ ص: 137 ] القسم الثاني
فيما ظن أنه دليل صحيح ، وليس كذلك وهو أربعة أنواع النوع الأول - ، وفيه مسألتان . شرع من قبلنا
المسألة الأولى
اختلفوا في ؟ فمنهم من نفى ذلك النبي عليه السلام قبل بعثته ، هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله كأبي الحسين البصري وغيره ، ومنهم من أثبته ، ثم اختلف المثبتون : فمنهم من نسبه إلى شرع نوح ، ومنهم من نسبه إلى شرع إبراهيم ، ومنهم من نسبه إلى موسى ، ومنهم من نسبه إلى عيسى .
ومن الأصوليين من قضى بالجواز وتوقف في الوقوع كالغزالي وغيرهما من المحققين ، وهو المختار . والقاضي عبد الجبار
أما الجواز فثابت ، وذلك لأنه لو امتنع ، إما أن يمتنع لذاته أو لعدم المصلحة في ذلك ، أو لمعنى آخر .
الأول ممتنع ، فإنا لو فرضنا وقوعه ؛ لم يلزم عنه لذاته في العقل محال . [1] .
والثاني فمبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى ، وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية ، [2] وبتقدير رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى فغير بعيد أن يعلم الله تعالى أن مصلحة الشخص قبل نبوته في تكليفه بشريعة من قبله .
والثالث : فلا بد من إثباته ، إذ الأصل عدمه .
[ ص: 138 ] وأما الوقوع فيستدعي دليلا ، والأصل عدمه ، وما يتخيل من الأدلة الدالة على الوقوع وعدمه - فمع عدم دلالتها في أنفسها - متعارضة كما يأتي ، وليس التمسك بالبعض منها أولى من البعض .
فإن قيل : أنه لو كان متعبدا بشريعة من الشرائع السالفة لنقل عنه فعل ما تعبد به واشتهر تلبسه بتلك الشريعة ومخالطة أهلها ، كما هو الجاري من عادة كل متشرع بشريعة ، وقد عرفت أحواله قبل البعثة ولم ينقل عنه شيء من ذلك . الدليل على أنه لم يكن قبل البعثة متعبدا بشريعة أحد قبله
وأيضا ، فإنه لو كان متعبدا ببعض الشرائع السالفة ، لافتخر أهل تلك الشريعة بعد بعثته واشتهاره وعلو شأنه بنسبته إليهم وإلى شرعهم ، ولم ينقل شيء من ذلك [3] .
سلمنا أنه لا دليل يدل على عدم تعبده بشرع من قبله ، ولكن لا نسلم عدم الدليل الدال على تعبده بشرع من قبله ، ويدل على ذلك أمران :
الأول : أن كل من سبق من المرسلين كان داعيا إلى اتباع شرعه كل المكلفين ، وكان النبي عليه السلام داخلا في ذلك العموم .
الثاني : أنه عليه السلام قبل البعثة كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت ويعظمه ويذكي ويأكل اللحم ويركب البهائم ويستسخرها ويتجنب الميتة ، وذلك كله مما لا يرشد إليه العقل ولا يحسن بغير الشرع .
والجواب عن الاعتراض الأول [4] أنه مقابل بأنه لو لم يكن على شريعة من الشرائع ولا متعبدا بشيء منها ؛ لظهر منه التلبس بخلاف ما أهل تلك الشرائع متلبسون به ، واشتهرت مخالفته لهم في ذلك وكانت الدواعي متوفرة على نقله ولم ينقل عنه شيء من ذلك ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .
[ ص: 139 ] وعن الاعتراض الأول [5] للمذهب الثاني بمنع دعوة من سبق من الأنبياء لكافة المكلفين إلى اتباعه ، فإنه لم ينقل في ذلك لفظ يدل على التعميم ليحكم به .
وبتقدير نقله فيحتمل أن يكون زمان نبينا عليه السلام زمان اندراس الشرائع المتقدمة وتعذر التكليف بها ؛ لعدم نقلها وتفصيلها ولذلك بعث في ذلك الزمان .
وعن الاعتراض الثاني ، أنا لا نسلم ثبوت شيء مما ذكروه بنقل يوثق به ، وبتقدير ثبوته لا يدل ذلك على أنه كان متعبدا به شرعا ؛ لاحتمال أن تكون صلاته وحجته وعمرته وتعظيمه للبيت بطريق التبرك بفعل مثل ما نقل جملته عن أفعال الأنبياء المتقدمين ، واندرس تفصيله .
وأما أكل اللحم وذبح الحيوان واستسخاره للبهائم فإنما كان بناء منه على أنه لا تحريم قبل ورود الشرع .
وأما تركه للميتة بناء [6] على عيافة نفسه لها ، كعيافته لحم الضب ، أما أن يكون متعبدا بذلك شرعا ، فلا .