المسلك السادس : إثبات العلة بالشبه ويشتمل على ثلاثة فصول :
الفصل الأول
في حقيقة الشبه واختلاف الناس فيه وما هو المختار فيه
نقول : اعلم أن اسم الشبه وإن أطلق على كل قياس ألحق الفرع فيه بالأصل لجامع يشبهه فيه ، غير أن آراء الأصوليين مختلفة فيه .
[1] فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين ، ووجد فيه المناط الموجود في كل واحد من الأصلين ، إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر ، فإلحاقه بما هو أكثر مشابهة هو الشبهة ، وذلك كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحر ، فإنه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان [ ص: 295 ] أحدهما : النفسية ، وهو مشابه للحر فيها ، ومقتضى ذلك أن لا يزاد فيه على الدية .
والثاني : المالية ، وهو مشابه للفرس فيها ومقتضى ذلك الزيادة .
إلا أن مشابهته للحر في كونه آدميا مثابا معاقبا ، ومشابهته للفرس في كونه مملوكا مقوما في الأسواق ، فكان إلحاقه بالحر أولى لكثرة مشابهته له ، وليس هذا من الشبه في شيء ، فإن كل واحد من المناطين مناسب ، وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرة فليست إلا من باب الترجيح لأحد المناطين على الآخر ، وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن كان يفتقر إلى نوع ترجيح .
ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه .
وذلك كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب بقوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) ، وليس هذا أيضا من الشبه ; إذ الكلام إنما هو مفروض في العلة الشبهية ، والنظر هاهنا إنما هو الحكم الواجب وهو الأشبه لا في تحقيق المناط ، وهو معلوم بدلالة النص .
ودليل أن أنه أوجب المثل ، ونعلم أن الصيد لا يماثله شيء من النعم ، فكان ذلك محمولا على الأشبه ، كيف وهو مجزوم مقطوع به والشبه مختلف فيه ، وكيف يكون المتفق عليه هو نفس المختلف فيه . الواجب هو الأشبه
ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال إلا أن أحدهما أغلب من الآخر ، فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه ، وذلك كاللعان فإنه قد وجد فيه لفظ الشهادة واليمين وليسا بمتمحضين ; لأن الملاعن مدع والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه ، وهذا وإن كان أقرب من المذاهب المتقدمة إلا أنه مهما غلبت إحدى الشائبتين فقد ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا ، فيجب الحكم بها ، ولكنه غير خارج عن التعليل بالمناسب .
وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة ، وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ، ولكن يستلزم ما يناسب الحكم ، وسيأتي تحقيقه في موضعه بعد .
[ ص: 296 ] ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها ، وذلك أن الوصف المعلل به لا يخلو إما أن تظهر فيه المناسبة ، أو لا تظهر فيه المناسبة [2] بوقوف من هو أهل معرفة المناسبة عليها ، وذلك بأن يكون ترتيب الحكم على وفقه مما يفضي إلى تحصيل مقصود من المقاصد المبينة من قبل ، فهو المناسب .
وإن لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ممن هو أهله ، فإما أن يكون مع ذلك مما لم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام ، أو هو مما ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام .
فإن كان من الأول ، فهو الطردي الذي لا التفات إليه ، ومثاله ما لو قال مثلا في إزالة النجاسة بمائع : لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن . الشافعي
وكما لو علل في مسألة من المسائل بالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما .
وإن كان الثاني ، فهو الشبهي ، وذلك لأنه بالنظر إلى عدم الوقوف على المناسبة فيه بعد البحث ، يجزم المجتهد بانتفاء مناسبته ، وبالنظر إلى اعتباره في بعض الأحكام يوجب إيقاف المجتهد عن الجزم بانتفاء المناسبة فيه ، فهو مشابه للمناسب في أنه غير مجزوم بنفي المناسبة عنه ، ومشابه للطردي في أنه غير مجزوم بظهور المناسبة فيه .
فهو دون المناسب وفوق الطردي ، ولعل المستند في تسميته شبهيا إنما هو هذا المعنى .
ومثاله قول في مسألة إزالة النجاسة : طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث ، فإن الجامع هو الطهارة ، ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة . وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف ، يوهم اشتمالها على المناسبة كما تقرر . الشافعي
واعلم أن إطلاق اسم الشبه وإن كان حاصله في هذه الصور راجعا إلى الاصطلاحات اللفظية غير أن أقربها إلى قواعد الأصول الاصطلاح الأخير ، وهو الذي ذهب إليه أكثر المحققين ، ويليه في القرب مذهب القاضي أبي بكر .