[ ص: 276 ] الفصل الخامس
[1] اختلفوا في ؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون . الحكم إذا ثبت لوصف مصلحي على وجه يلزم منه وجود مفسدة مساوية له أو راجحة عليه ، هل تنخرم مناسبته أو لا
وقد احتج من قال ببقاء المناسبة من وجوه أربعة :
الأول : أن مناسبة الوصف تنبني على ما فيه من المصلحة ، والمصلحة أمر حقيقي لا تختل [2] بمعارضة المفسدة ، ودليله [3] أن المصلحة والمفسدة المتعارضتان إما أن يتساويا أو تترجح إحداهما على الأخرى ، فإن كان الأول : فإما أن تبطل كل واحدة منهما بالأخرى ، أو أن تبطل إحداهما بالأخرى من غير عكس ، أو لا تبطل واحدة منها بالأخرى . الأول محال ; لأن عدم كل واحدة منهما إنما هو بوجود الأخرى ، وذلك يجر إلى وجودهما مع عدمهما ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون متحققة مع المعلول . والثاني محال [4] ; لعدم الأولوية ، والثالث [5] هو المطلوب ، وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فلا يلزم منه إبطال المرجوحة إلا أن تكون بينهما منافاة ، ولا منافاة لما بيناه من جواز اجتماعهما في القسم الأول ، ولأن الراجحة منهما إذا كانت معارضة بالمرجوحة ، فإما أن ينتفي شيء من الراجحة لأجل المرجوحة أو لا ينتفي منها شيء ، فإن كان الأول فهو محال أن تتساويا لما سبق في القسم الأول ، ولأنه ليس انتفاء بعض الراجح وبقاء بعضه أولى من العكس ; ضرورة التساوي في الحقيقة وإن تفاوتا ، فالكلام في الراجح كالكلام في [ ص: 277 ] الأول وهو تسلسل ممتنع ، وإذا كانت المصلحة لا تختل بمعارضة المفسدة ، فالعقل يقضي بمناسبتها للحكم ، وبالنظر إلى المعارض يقضي بانتفاء الحكم لأجل المعارض ، ولهذا يحسن من العاقل أن يقول : الداعي إلى إثبات الحكم موجود غير أنه يمنعني منه مانع ، ولو اختلت مناسبة الوصف لما حسن من العاقل هذه المقالة .
الوجه الثاني : أنه قد يتعارض في نظر الملك عند الظفر بجاسوس عدوه المنازع له في ملكه قتله وعقوبته زجرا له ولأمثاله عن الحبس [6] المضر به والإحسان إليه وإكرامه ، إما للاستهانة بعدوه أو لقصد كشف أسراره ، وأي الأمرين سلك فإنه لا يعد خارجا عن مذاق الحكمة ومقتضى المناسبة ، وإن لزم منه فوات المقصود الحاصل من سلوك مقابله ، وسواء تساويا أو كان أحدهما راجحا .
الثالث : أنه إذا اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب في الميراث فإنه قد يتعارض في نظر الناظر تقديم الأخ من الأبوين لاختصاصه بقرابة الأمومة ، والتسوية بينهما لاشتراكهما في جهة العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة ، وتفضيل الأخ من الأبوين لاختصاصه بمزيد القرابة ، ومع ذلك فالعقل يقضي بتأدي النظر [7] من غير احتياج إلى ترجيح بأن ورود الشرع بالاحتمال الأول مناسب غير خارج عن مذاق العقول ، ولو كان ترجيح الوصف المصلحي معتبرا في مناسبته لما كان كذلك .
الرابع : أن الشرع قد ورد بصحة الصلاة في الدار المغصوبة نظرا إلى ما فيها من المصلحة ، وبتحريمها نظرا إلى ما فيها من مفسدة الغصب . فلو اشترط الترجيح في المناسبة لما ثبت الصحة ولا التحريم بتقدير التساوي بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم ، ولا حكم الصحة بتقدير رجحان مفسدة الغصب ولا التحريم بتقدير رجحان مصلحة الصحة لعدم المناسبة .
وهذه الحجج ضعيفة .
[ ص: 278 ] أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول : إن أردت أن فمسلم ، ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لا بد منه في المناسبة تحقق المناسبة ، وإن أردت أنها مستقلة بتحقيق المناسبة فممنوع ، وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها فالمناسبة أمر عرفي ، وأهل العرف لا يعدون المصلحة العارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة ، ولهذا إن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيها خارجا في تصرفه عن تصرفات العقلاء ، ولو كان ذلك مناسبا لما كان كذلك ، وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة . مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة
وقوله : غير أنه يمنعني منه مانع . وإن كان صحيحا في العرف فليس ذلك إلا لإخلال المانع المفسدي بمناسبة المصلحة لا بمعنى أن الانتفاء محال على المفسدة [8] مع وجود المناسب للحكم .
وعلى هذا نقول بأن ، فالمختل مناسبتها دون مناسبة الراجحة ضرورة فوات شرط المناسبة ، لا لأن كل واحدة علة للإخلال بمناسبة الأخرى أو إحداهما ليلزم في ذلك ما قيل . مناسبة كل واحدة من المصلحة والمفسدة تختل بتقدير التساوي وبتقدير مرجوحية إحداهما
وأما الحجة الثانية : فلقائل أن يقول أيضا : مهما لم يترجح في نظر الملك وأهل العرف مصلحة ما عينه من أحد الطريقين من الإحسان أو الإساءة بمقتضى الحالة الراهنة ، فإن فعله لا يكون مناسبا ، ويكون بتصرفه خارجا عن تصرفات العقلاء .
وأما الحجة الثالثة : فلقائل أن يقول : لا نسلم جواز الجزم بمناسبة ما عين دون ظهور الترجيح في نظر الناظر ، وبعد ظهور الترجيح فليس الجزم بمناسبة الوصف في نفس الأمر قطعا لجواز أن يكون في نفسه مرجوحا وإن لم يطلع عليه .
[ ص: 279 ] وأما الحجة الرابعة : فبعيدة عن التحقيق وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته تحصيلا للمصلحة مفسدة مساوية أو راجحة .
وما ذكر من مفسدة تحريم الغصب ، وهي شغل ملك الغير غير لازمة من ترتيب حكم المصلحة عليها ، وهو صحة الصلاة ، فإنا وإن لم نقض بصحة الصلاة فالمفسدة اللازمة من الغصب لا تختل بل هي باقية بحالها ، ولو كانت لازمة من حكم المصلحة لا غير لانتفت المفسدة المفروضة بانتفاء حكم المصلحة ، وليس كذلك ، وحيث لم تكن مفسدة تحريم الغصب لازمة عن حكم المصلحة كان من المناسب اعتبار كل واحدة منهما في حكمها ، وهي المصلحة والمفسدة ; إذ لا معارضة بينهما على ما تقرر .
وإذا تقرر توقف المناسبة على الترجيح فللمعلل ترجيح وصفه بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل ، وله الترجيح بطريق إجمالي يطرد في جميع المسائل .
وحاصله أن يقول سوى ما ذكرته ، لزم أن يكون الحكم قد ثبت تعبدا ، وهو خلاف الأصل لوجهين : المعلل : لو لم يقدر ترجيح المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث وعدم الاطلاع على ما يمكن إضافة الحكم إليه في محل التعليل
الأول : أن الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد ، فإدراج ما نحن فيه تحته أولى .
الثاني : أنه إذا كان معقول المعنى كان الحكم أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ، فإن الانقياد إلى المعقول المألوف أقرب مما ليس كذلك ، فكان أفضى إلى المقصود من شرع الحكم .
لكن لقائل أن يقول : ما ذكرتموه من البحث عن وصف آخر يمكن إضافة الحكم إليه مع عدم الظفر به ، وإن دل على ترجيح جهة المصلحة فهو معارض بما يدل على عدم ترجيحها ، وهو عدم الاطلاع على ما به تكون راجحة على معارضها مع البحث عنه وعدم الظفر به ، وليس أحد البحثين أولى من الآخر .
فإن قلتم : بل ما ذكرناه أولى من جهة أن بحثنا عن وصف صالح للتعليل ، وذلك لا يتعدى محل الحكم فمحله متحد ، وبحثكم إنما هو عما به الترجيح ، وهو غير منحصر في محل الحكم ، فإن ما به الترجيح قد يكون بما يعود إلى ذات العلة ، وقد يكون بأمر خارج عنها كما يأتي تقريره ، فكان ما ذكرناه أولى .
[ ص: 280 ] قلنا : ما به الترجيح إن كان خارجا عن محل الحكم ، فلا يتحقق به الترجيح في محل الحكم .
وإن كان في محل الحكم فقد استوى البحثان في اتحاد محلهما ولا ترجيح بهذه الجهة .
وبتقدير تسليم اتحاد محل بحث المستدل والتعدد في محل بحث المعترض غير أن الظن الحاصل من البحثين : إما أن يكون متساويا ، أو متفاوتا .
وبتقدير المساواة ورجحان ظن المعترض ، فلا ترجيح في جانب المستدل ، وإنما يترجح بتقدير أن يكون ظنه راجحا .
ولا يخفى أن ما يقع على تقدير من تقديرين يكون أغلب مما لا يقع إلا على تقدير واحد .
وينبغي أن يعلم أن . اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة إنما يتحقق على رأي من لا يرى تخصيص العلة
وأما من يرى جواز تخصيصها وجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المعارض مع وجود المقتضي ، فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة وإن كانت المصلحة مرجوحة أو مساوية ، فإن انتفاء الحكم بالمانع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمقصود راجح على مقصود المقتضي للإثبات ، أو مساو له ، أو مرجوح بالنسبة إليه .
فإن كان راجحا فقد قيل بمناسبة المقتضي للإثبات مع كون مقصوده مرجوحا ، وإلا فلو لم يكن مناسبا كان الحكم منتفيا لانتفاء المناسب لا لوجود المانع ، وإن كان مساويا فكذلك أيضا .
وإن كانت مفسدة المانع مرجوحة فقد قيل بانتفاء الحكم له ، ولولا مناسبته للانتفاء لما انتفى الحكم به ، فإنه لو جاز أن ينتفي الحكم بما ليس بمناسب لجاز أن يثبت بما ليس بمناسب .