[ ص: 236 ] المسألة الثانية عشرة
[1] اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة ، واختلفوا في جواز [2] في صورة واحدة بعلتين معا . تعليل الحكم الواحد
فمنهم من منع ذلك مطلقا كالقاضي أبي بكر ومن تابعهما ، ومنهم من جوز ذلك مطلقا ، ومنهم من فصل بين العلل المنصوصة والمستنبطة ، فجوزه في المنصوصة ومنع منه في المستنبطة وإمام الحرمين ومن تابعه . كالغزالي
والمختار إنما هو المذهب الأول ، وذلك لأنه لو كان معللا بعلتين لم يخل إما أن تستقل كل واحدة بالتعليل ، أو أن المستقل بالتعليل إحداهما دون الأخرى ، أو أنه لا استقلال لواحدة منهما بل التعليل لا يتم إلا باجتماعهما .
لا جائز أن يقال بالأول ; لأن معنى كون الوصف مستقلا بالتعليل أنه علة الحكم دون غيره ، ويلزم من استقلال كل واحدة منهما بهذا التفسير امتناع استقلال كل واحدة منهما وهو محال .
وإن كان الثاني أو الثالث فالعلة ليست إلا واحدة ، وعلى هذا فلا فرق بين أن تكون العلة في التعليل بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة .
فإن قيل : نحن لا نفسر استقلال العلة بأن الحكم ثبت بها لا غير ليلزمنا ما قيل ، بل معنى استقلالها أنها لو انفردت لكان الحكم لها ولا أثر لانتفاء غيرها .
ولا يخفى وجه الفرق بينه وبين القسمين الآخرين .
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعليل الحكم بعلتين على وجه تكون كل واحدة مستقلة بالحكم ، لكنه معارض بما يدل على جوازه بالنظر إلى ما هو الواقع من أحكام الشرع .
وذلك أنا قد اتفقنا على ثبوت الحكم الواحد عقيب علل مختلفة ، كل واحدة قد ثبت استقلالها بالتعليل في صورة .
[ ص: 237 ] وعند ذلك فإما أن يقال : العلة منها واحدة أو الكل ( علة ) واحدة ذات أوصاف ، أو أن كل واحدة علة مستقلة .
لا جائز أن يقال بالأول وإلا فهي معينة أو مبهمة : القول بالتعيين ممتنع لعدم الأولوية ، ولما فيه من خروج الباقي عن التعليل مع استقلال كل واحدة به ، وبهذا يبطل الإبهام .
والقسم الثاني : أيضا ، فلم يبق سوى القسم الثالث وهو الاستقلال .
ودليل ثبوت مثل هذه الأحكام : الإجماع على إباحة قتل من قتل مسلما قتلا عمدا عدوانا ، وارتد عن الإسلام ، وزنا محصنا وقطع الطريق معا ، وعلى ثبوت الولاية على الصغير المجنون ، وعلى امتناع نكاح من أولدته وأرضعته ، وعلى تحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة ، وعلى انتقاض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط معا .
والجواب عن الإشكال الأول : أن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد ، والتقسيم في حالة الاجتماع ، فعلى ما سبق .
وأما الأحكام فالوجه في دفعها أن تقول : أما إباحة قتل من قتل وارتد وزنى محصنا وقطع الطريق ، فالعلل وإن كانت فيه متعددة فالحكم أيضا متعدد شخصا وإن اتحد نوعا ، ولذلك فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العودة عن الردة إلى الإسلام انتفاؤها بباقي الأسباب الأخر ، ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص انتفاؤها بباقي الأسباب .
ويدل على تعدد الحكم أيضا أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص ، ولذلك يتمكن من إسقاطه مطلقا ، والإباحة بجهة الزنا والردة حق لله تعالى بجهة الخلوص دون الآدمي ، وذلك غير متصور في شيء واحد ، وعلى تقدير الاستيفاء فالمقدم حق الآدمي وهو الإباحة بجهة القصاص ; لأن حقه مبني على الشح والمضايقة ، وحق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة من حيث إن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى .
وأما ثبوت الولاية على الصغير المجنون فمستندة إلى الصغر لسبقه على الجنون لكون الجنون لا يعرف إلا بعد حين ، وكذلك امتناع نكاح الوالدة المرضعة فإنه مستند إلى الولادة دون الرضاع لسبقها عليه .
[ ص: 238 ] وأما الوطء في حق الحائض المعتدة المحرمة فغير محرم على التحقيق ، وإنما المحرم في حق الحائض ملابسة الأذى ، وفي حق المعتدة تطويل العدة ، وفي حق المحرمة إفساد العبادة ، وهي أحكام متعددة لا أنها حكم واحد .
وأما المس واللمس وباقي الأسباب فالأحداث المرتبة عليها متعددة على رأي لنا .
وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها لارتفع الباقي ، فأحكامها أيضا متعددة لا أنها حكم واحد ، والنزاع إنما هو في الحكم الواحد بالشخص بعلتين لا في تعليل حكمين .
وعلى هذا فلا يخفى وجه التخريج لكل ما يرد من هذا القبيل .