المسألة الثامنة
اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة
[1] ، جوزه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك ، ومنع من ذلك أكثر أصحاب وأحمد بن حنبل ، وقد قيل : إنه منقول عن الشافعي . الشافعي
[ ص: 219 ] ثم القائلون بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة ، واختلفوا في جواز تخصيص المستنبطة إذا لم يوجد في محل التخلف مانع ولا فوات شرط ، فمنع منه الأكثرون وجوزه الأقلون .
والقائلون بالمنع في اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة . تخصيص العلة المنصوصة
والمختار إنما هو التفصيل ، وهو أن يقال : العلة الشرعية لا تخلو إما أن تكون قطعية أو ظنية ، فإن كانت قطعية ، فتخلف الحكم عنها لا يخلو : إما أن يكون لا بدليل أو بدليل ، لا جائز أن يقال بالأول لأنه محال ، وإن كان الثاني فالدليل إما ظني أو قطعي ، والظني لا يعارض القطعي ، وتعارض قاطعين أيضا محال ، إلا أن يكون أحدهما ناسخا للآخر .
وإن كانت ظنية فتخلف الحكم عنها إما في معرض الاستثناء أو لا في معرض الاستثناء ، فإن كان الأول : كتخلف إيجاب المثل في لبن المصراة عن العلة الموجبة له ، وهي تماثل الأجزاء بالعدول إلى إيجاب صاع من التمر ، وتخلف وجوب الغرامة عمن صدرت عنه الجناية في باب ضرب الدية على العاقلة .
وتخلف حكم الربا مع وجود الطعم في العرايا ونحوه ، فذلك مما لا يدل على بطلان العلة ، بل تبقى حجة فيما وراء صورة الاستثناء ، وسواء كانت العلة المخصوصة منصوصة أو مستنبطة ، وذلك لأن الدليل من النص ، أو الاستنباط قد دل على كونها علة ، وتخلف الحكم عنها حيث ورد بطريق الاستثناء عن قاعدة القياس كان مقررا لصحة العلة لا ملغيا لها .
وأما إن كان تخلف الحكم عنها لا بطريق الاستثناء فلا يخلو إما أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطة ، فإن كانت منصوصة فلا يخلو إما أن يمكن حمل النص على أن الوصف المنصوص عليه بعض العلة ، وذلك [ ص: 220 ] كتعليل انتقاض الوضوء بالخارج من غير السبيلين مأخوذا [2] من قوله عليه السلام : " " الوضوء مما خرج [3] ، فإنه إذا تخلف عنه الوضوء في الحجامة أمكن أخذ قيد الخارج من السبيلين في العلة ، وتأويل النص بصرفه عن عموم الخارج النجس إلى الخارج من المخرج المعتاد أو حمله على حكم آخر غير الحكم المصرح به في النص ، وذلك قوله [4] تعالى : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) معللا بقوله تعالى : ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ) فإن الحكم المعلل المصرح به إنما هو خراب البيت ، وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فأمكن حمل الخراب على استحقاق الخراب وجد الخراب أو لم يوجد ، أو أنه لا يمكن ذلك فإن أمكن تأويل النص بالحمل على معنى خاص أو حكم آخر خاص وجب التأويل لما فيه من الجمع بين دليل التعليل بتأويله ودليل إبطال العلة المذكورة ، وإن لم يمكن تأويله بغير الوصف المذكور والحكم المرتب عليه فغايته امتناع إثبات حكم العلية لما عارضها من النص النافي لحكمها . والعلة المنصوصة في معنى النص وتخلف حكم النص عنه في صوره [5] لما عارضه - لا يوجب إبطال العمل به في غير صورة المعارضة ، فكذلك العلة المنصوصة .
وأما إن كانت العلة مستنبطة فتخلف الحكم عنها إما أن يكون لمانع أو فوات شرط أو لا يكون .
فإن كان الأول : وذلك كما في إيجاب القصاص على القاتل بالقتل العمد العدوان ، وتخلف الحكم عنه في الأب والسيد بمانع الأبوة والسيادة ، فلا يكون [ ص: 221 ] ذلك مبطلا للعلية فيما وراء صورة المخالفة ; لأن دليل الاستنباط قد دل على العلية بالمناسبة والاعتبار ، وقد أمكن إحالة نفي الحكم على ما ظهر من المانع لا على إلغاء العلة ، فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليل الدال على العلة والدليل الدال على مانعية الوصف النافي للحكم ، فإن الجمع بين الأدلة أولى من إبطالها .
ولا يخفى أن مما يلزم منه إبطال الدليل الدال على العلة ، والدليل الدال على مانعية المانع ، فكان القول بإحالة نفي الحكم على المانع أولى . القول بإبطال العلة بتخلف الحكم عنها
فإن قيل : لا نسلم أن المناسبة وقران الحكم بها فقط دليل العلية ، بل مع الاطراد وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إمكان تعليل انتفاء الحكم بالمانع لوجهين :
الأول : أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف يتوقف على وجود المقتضي للحكم فيها ، فإنه لو لم يكن المقتضي للحكم موجودا فيها لكان الحكم منتفيا لانتفاء المقتضي لا للمانع ولا لفوات الشرط ، والقول بكون الوصف المذكور علة يتوقف في صورة التخلف على وجود المانع أو فوات الشرط ، فإنا إذا لم نتبين وجود المانع ولا فوات الشرط فالحكم يجب أن يكون منتفيا لانتفاء ما يقتضيه ، وعند ذلك نتبين أن الوصف المذكور ليس بعلة ، وإذا توقف كل واحد من المقتضي والمانع على الآخر كان دورا ممتنعا ، وهذا الامتناع إنما لزم من التعليل بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف فكان ممتنعا .
الوجه الثاني : أن انتفاء الحكم في صورة التخلف كان متحققا قبل وجود المانع ، وفي تعليله بالمانع - تعليل المتقدم بالمتأخر وهو محال ، وسواء كان المانع بمعنى الأمارة أو الباعث .
قلنا : جواب الأول : أنا إذا رأينا الوصف مناسبا والحكم مقترنا به ، غلب على الظن تأول النظر [6] إليه أنه علة مع قطع النظر عن البحث في جميع مجاري العلة ، هل الحكم مقارن لها أو لا ؟
[ ص: 222 ] وأما الاطراد فحاصله يرجع إلى السلامة عن النقض المعارض لدليل العلية ، وعدم المعارض غير داخل في دليل العلية ، وعن الدور من ثلاثة أوجه :
الأول : لا نسلم أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع يستدعي وجود المقتضي .
ودليله : أنه يصح انتفاؤه بالمانع مع وجود المقتضي ومع كون المقتضي معارضا للمانع ، فلأن يصح النفي به مع عدم المقتضي كان أولى .
[7] الثاني : وإن سلمنا ، ولكن لا نسلم توقف وجود المقتضي على وجود المانع ، فإن كون المقتضي مقتضيا إنما يعرف بدليله من المناسبة والاعتبار أو غير ذلك من الطرق ، وذلك متحقق فيما نحن فيه فيجب القضاء بكونه مقتضيا ، والمانع إنما هو من قبيل المعارض فإن وجد انتفى الحكم المقتضى مع بقاء المقتضي بحاله مقتضيا ، وإن لم يوجد ؛ عمل المقتضي عمله . توقف التعليل بالمانع على وجود المقتضي
الثالث : سلمنا توقف كل واحد منهما على الآخر ، لكن توقف معية أو توقف تقدم ، الأول مسلم والثاني ممنوع ، وعلى هذا فلا دور .
وعن قولهم : فيه تعليل المتقدم بالمتأخر ، أن المعلل نفيه بالمانع إنما هو انتفاء الحكم الذي صار بسبب وجود المقتضى بعرضية الثبوت عرضية لازمة لا مطلق حكم ، وذلك مما لا يسلم تقدمه على المانع المفروض .
وأما إن لم يظهر في صورة التخلف مانع ولا فوات شرط ، فالحق بطلان العلة وذلك لأن العلة المستنبطة إنما عرف كونها علة باعتبار الشارع لها بثبوت الحكم على وفقها ، وذلك إن دل على اعتبارها ، فتخلف الحكم عنها مع ظهور ما يكون مستندا لنفيه يدل على إلغائها وليس أحد الدليلين أولى من الآخر فيتقاومان ، ويبقى الوصف على ما كان قبل الاعتبار ولم يكن قبل ذلك علة فكذلك بعده .
فإن قيل : مناسبة الوصف وقران الحكم به دليل ظاهر على كونه علة وكذلك سائر طرق الاستنباط ، وهذا الدليل قائم وإن وجد النقص ، وتخلف الحكم [ ص: 223 ] عن الوصف غايته أنه يوجب الشك في فساد العلة وتقاوم احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة أو وجود المعارض على السواء ، وإذا كان دليل العلة ظاهرا ودليل الفساد مشكوكا فيه فالمشكوك فيه لا يقع في مقابلة الظاهر . ودليل وقوع الشك في فساد العلة في صورة النقض وتقاوم الاحتمال فيها - أنه يحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض من وجود مانع أو فوات شرط ، ويحتمل أنه لفساد العلة وهما متقاومان . وبيان التقاوم أن احتمال الانتفاء لانتفاء العلة وإن كان الأصل بالنسبة إلى احتمال انتفائه للمعارض ; دفعا لمحذور المعارضة غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى إبطال العلة مع قيام الدليل الدال على كون الوصف علة . واحتمال انتفاء الحكم للمعارض وإن كان على خلاف الأصل لما فيه من نفي الحكم مع قيام دليله ؛ غير أنه على وفق الأصل من جهة موافقة الدليل الدال على كون الوصف علة . فإذا احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة موافق للأصل من وجه ومخالف له من وجه فيتقاوم الاحتمالان على السواء ، وذلك مما يوجب الشك في فساد العلة ، والشك لا يعارض الظاهر بوجه .
قلنا : إذا اعترف بالشك في دليل فساد العلة فيلزم منه الشك في فساد العلة ، ويلزم من الشك في فساد العلة انتفاء الظن بكونها علة ; لأن الصحة والفساد متقابلان فمهما وقع الشك في أحد المتقابلين وقع الشك في الآخر ، وإن كان أحدهما ظاهرا والآخر بعيدا فالقول بوقوع الشك في أحد المتقابلين مع ظهور الآخر ممتنع كما يمتنع الشك في الغيم مع ظن الصحو ، والشك في موت زيد مع ظن حياته ، وهذا بخلاف ما إذا شككنا في الطهارة وحكمنا بالنجاسة نظرا إلى النجاسة السابقة ، فإن الشك في هذه الصورة لا يجامع النظر إلى الأصل بل عند النظر إلى الأصل يترجح أحد احتمالي الشك على الآخر فلا يبقى الشك متحققا ، حتى إنه لو وقع الشك في النجاسة أو الطهارة مع النظر إلى الأصل لبقي الشك معمولا به ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن الشك إنما وقع في فساد العلة في صورة النقض مع النظر إلى دليل العلة ، ولولا النظر إلى دليل العلة لكان الظاهر انتفاء الحكم لا انتفاء العلة ، ومهما كان كذلك فلا يمكن القضاء بظهور العلة مع أن تقاوم الاحتمال إنما كان بالنظر إلى دليل العلة .
[ ص: 224 ] كيف وإنه قد يمكن أن يقال : انتفاء الحكم مع وجود الوصف دليل ظاهر على أنه ليس بعلة ، وثبوت الحكم على وفقه مع مناسبته مما يوجب الشك في صحة التعليل به في محل الاعتبار ، والمشكوك فيه لا يعارض الظاهر ، وبيان وقوع الشك في صحة التعليل في الأصل المستروح إليه أنه وإن كان ثبوت الحكم به على وفق الأصل ، غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ، وثبوت الحكم لغيره وإن كان على خلاف الأصل مع عدم الظفر به إلا أنه على وفق الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ، ويلزم من ذلك تقاوم الاحتمالات في صحة العلة ، وإن كان الظاهر قد دل على فسادها فلا يترك بالمشكوك فيه .
فإن قيل : ما ذكرتموه من دلائل عدم الانتقاض في الصور المذكورة معارض من ثمانية أوجه :
[8] الأول : وهو اختيار أبي الحسين البصري أن تخصيص العلة مما يمنع من كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع ، سواء ظن بها أنها جهة للمصلحة أو لم يكن ظن بها ذلك .
وبيان ذلك أنا إذا علمنا أن علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلا هي كونه موزونا ، ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مع أنه موزون ، لم يخل إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته أو بنص ، فإن علمنا إباحته بعلة أخرى يقايس بها الرصاص على أصل مباح لكونه أبيض مثلا ، فإنا عند ذلك لا نعلم تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلا إلا بكونه موزونا غير أبيض ، فإنا لو شككنا في كونه أبيض لم نعلم قبح بيعه متفاضلا كما لو شككنا في كونه موزونا ، فبان أنا لا نعلم بعد التخصيص تحريم شيء لكونه موزونا فقط ، فبطل أن يكون الموزون [ ص: 225 ] مع كونه غير أبيض ، وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا دل على إباحة بيع الرصاص نص ، وسواء علمت علة الإباحة أو لم تعلم .
الثاني : قال بعض أصحابنا : اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر ، فإن اعتبر لم تكن العلة علة إلا عند انتفاء المعارض ، وذلك يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس هو تمام العلة بل بعضها ، وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل يكون الحكم حاصلا ، وذلك يقدح في كون المعارض معارضا .
الثالث : أنه لا بد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل وبين كون المانع مانعا حقيقيا بالفعل ; منافاة بالذات ، وشرط طريان أحد المتنافيين بالذات انتفاء الأول وليس انتفاء الأول لطريان اللاحق ، وإلا لزم الدور وحيث كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضي عن كونه مقتضيا بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل لأجل تحقق ، وإلا لزم الدور ، فإذا المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع بل بذاته ، وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك لا يصلح للعلية .
الرابع : أن الوصف وإن وجد مع الحكم في الأصل فقد وجد مع الحكم في صورة النقض مع عدم الحكم ، ووجوده مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علة لذلك الحكم ، ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقض يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم في تلك الصورة ، والوصف الحاصل في الفرع كما إنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو مثل الوصف الحاصل في صورة النقض ، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ، فلم يجز الحكم عليه بكونه علة .
الخامس : قالوا : لا طريق إلى صحة العلة الشرعية سوى جريانها مع معلولها ، فإذا لم تجر معه لم يكن إلى صحتها طريق .
السادس : قالوا : العلة الشرعية إذا دل الدليل على تعلق الحكم بها ، امتنع تخصيصها كالعلة العقلية .
[ ص: 226 ] السابع : قالوا : العلة في القياس طريق إلى إثبات الحكم في الفرع ، فإذا وجدت العلة في نوعين امتنع أن تكون طريقا إلى العلم بحكم أحدهما دون الآخر كما في الإدراكات والأدلة العقلية .
الثامن : قالوا : لو جاز وجود العلة الشرعية في فروع يثبت الحكم معها في البعض دون البعض لم يكن البعض بالإثبات أولى من البعض الآخر .
وما ذكرتموه من دليل الانتقاض في الصورة الأخيرة معارض من أربعة أوجه :
[9] الأول : إجماع الصحابة على ذلك ، ودليله ما روي عن أنه كان يقول : هذا حكم معدول به عن سنن القياس ابن مسعود [10] واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعا .
الثاني : أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع ووجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة ، فإنه ليس من شرط كون الأمارة أمارة على شيء أن يكون ذلك الشيء ملازما لها دائما ، بدليل وجود جميع الأمارات الشرعية على إثبات الأحكام وإن لم تكن الأحكام ملازمة لها قبل ورود الشرع ، وبدليل الغيم الرطب فإنه أمارة على وجود المطر وإن لم يكن المطر ملازما له ، ولذلك فإن وقوف مركوب القاضي على باب الملك أمارة على كونه في دار الملك ، ولا يخرج في ذلك عن كونه أمارة لوجوده [11] في بعض الأوقات ، والقاضي غير موجود [ ص: 227 ] في دار الملك بأن يكون مركوبه مستعارا ، وكذلك خبر الواحد فإنه أمارة على وجود الحكم وتخلف حكمه عند وجود النص الراجح المخالف له لا يخرجه عن كونه أمارة عليه عند عدم ذلك النص .
[12] الثالث : أن العلة المستنبطة أمارة فجاز تخصيصها كالمنصوصة .
الرابع : أن كون الوصف أمارة على الحكم في محل ، إما أن يتوقف على كونه أمارة على ذلك الحكم في محل آخر أو لا يتوقف ، فإن توقف فإما أن لا يتعاكس الحال في ذلك أو يتعاكس [13] ، الأول محال لما فيه من الدور .
والثاني أيضا محال لعدم الأولوية ، وإن لم يتوقف فهو المطلوب .
والجواب عن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على امتناع التخصيص : أنا وإن سلمنا أن علة القياس أمارة على حكم الفرع معرفة له ، وأنه إذا تخلف الحكم عنها في صورة أخرى للمعارض لا يمكن إثبات الحكم بها في فرع من الفروع دون العلم بانتفاء ذلك المعارض لها المتفق عليه ، ولكن لا يلزم أن يكون انتفاء ذلك المعارض من جملة المعرف للحكم ، بل المعرف للحكم إنما هو ما كان باعثا عليه في الأصل ، وانتفاء المعارض إنما توقف إثبات حكم الأمارة عليه ضرورة أن الحكم لا يثبت مع تحقق المعارض النافي له ، فكان نفيه شرطا في إثبات حكم الأمارة لا أنه داخل في مفهوم الأمارة .
وعن الثانية : أنه وإن سلم أن اقتضاء العلة للحكم لا يتوقف على عدم المعارض فما المانع منه قولهم إنه يكون الحكم حاصلا ، وإن حصل المعارض لا نسلم ذلك فإن العلة وإن كانت مقتضية للحكم فإنما يلزم وجود الحكم أن لو انتفى المعارض الراجح أو المساوي .
[ ص: 228 ] وعلى هذا فلا يلزم من النفي القدح في المعارض ولا في العلة .
وعن الثالثة : لا نسلم المنافاة بين اقتضاء المقتضي واقتضاء المانع ، ولا استحالة الجمع بينهما وإن استحال الجمع بين حكمهما .
وعلى هذا فلا يلزم من تحقق المانع خروج المقتضي عن جهة اقتضائه لا بذاته ولا بغيره بخلاف المتنافيات بالذات .
وعن الرابعة : أنه وإن كان وجود الوصف مع الحكم في الأصل لا يوجب القطع بكونه علة لكنه يغلب على الظن كونه علة ، ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقص لا نسلم أنه يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم ، بل الظن بالعلية باق بحاله وانتفاء الحكم إنما كان لوجود المعارض النافي للحكم على ما هو معلوم من قاعدة القائلين بتخصيص العلة .
وعن الخامسة : لا نسلم أن اطراد العلة طريق إلى صحتها كما يأتي مفصلا من كونه [14] لا طريق سواه .
وعن السادسة : لا نسلم أن العلة العقلية يمتنع تخلف الحكم عنها ، بل ذلك جائز عند فوات القابل لحكمها كما بيناه في الكلاميات . وإن سلمنا امتناع تخلف حكمها عنها فليس ذلك لدلالة الدليل على تعلق الحكم بها ولا لكونها علة ، بل إنما كان ذلك بكونها مقتضية للحكم لذاتها ، وذلك غير متحقق في العلة الشرعية فإنها ليست مقتضية للحكم لذاتها وإنما هي علة بوضع الشارع لها أمارة على الحكم في الفرع .
وعن السابعة : أنه ليست العلة في امتناع الافتراق في الدليل العقلي المتعلق بمدلولين ، وامتناع الافتراق في الإدراك المتعلق بمدركين كونه طريقا لا دليلا ، بل لكون الدليل العقلي موجبا لذاته ولكون الإدراك مما يجب العلم بالمدرك عنده عادة [15] بخلاف العلل الشرعية على ما سبق .
[ ص: 229 ] وعن الثامنة : أنه إنما اختص البعض بتخلف الحكم دون البعض لاختصاصه بمعارض لا تحقق له فيما كان الحكم ثابتا فيه .
وعن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على التخصيص : أنه لا دلالة لقول على أن القياس الذي كان الحكم ثابتا على خلافه أنه حجة ، فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدا . ابن مسعود
وإن كان حجة لكن يمكن حمله على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ، ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة .
وعن الثانية : لا نسلم أن تخلف الحكم عن الأمارة من غير معارض لا يخرجها عن كونها أمارة ، وذلك لأنه إما أن يكون كل ما توقف عليه التعريف في صورة كانت الأمارة أمارة فيه قد تحقق في صورة تخلف الحكم أو لم يتحقق .
فإن كان الأول فتخلف الحكم عنه ممتنع .
وإن كان الثاني فالموجود في صورة التخلف ليس هو الأمارة التي توقف عليها التعريف بل البعض منها .
وعلى هذا يكون تخريج كل ما ذكروه من الصور .
[16] وعن الثالثة : بمنع كون المستنبطة مع تخلف الحكم عنها من غير معارض أمارة ، وعلى هذا فلم يوجد الجامع بين الأصل والفرع ، وإن دلوا على كونها أمارة مع التخصيص بطريق آخر فهو كاف في المطلوب ، وخروج عن خصوص هذه الدلالة .
وعن الرابعة : أن المختار مما ذكروه من الأقسام قسم التوقف من الطرفين .
قولهم : إن ذلك يفضي إلى الدور ، إنما يلزم إن لو توقف كون الأمارة في كل واحدة من الصورتين على كونها أمارة في الصورة الأخرى توقف تقدم ، أما إذا كان ذلك بطريق المعية فلا كما عرف ذلك فيما تقدم ، والله أعلم .