اختلف العلماء في صحة ، فجوزه أصحاب الاستثناء من غير الجنس أبي حنيفة ومالك والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين والنحاة ومنع منه الأكثرون .
وأما أصحابنا فمنهم من قال بالنفي ، ومنهم من قال بالإثبات .
[ ص: 292 ] احتج من قال بالبطلان بأن الاستثناء استفعال مأخوذ من الثني ، ومنه تقول : ثنيت الشيء إذا عطفت بعضه على بعض ، وثنيت فلانا عن رأيه ، وثنيت عنان الفرس .
وحقيقته أنه استخراج بعض ما تناوله اللفظ وذلك غير متحقق في مثل قول القائل : رأيت الناس إلا الحمر ؛ لأن الحمر المستثناة غير داخلة في مدلول المستثنى منه حتى يقال بإخراجها وثنيها عنه ، بل الجملة الأولى باقية بحالها لم تتغير ، ولا تعلق للثاني بالأول أصلا .
ومع ذلك فلا تحقق للاستثناء من اللفظ ، ولا يمكن أن يقال بصحة الاستثناء بناء على ما وقع به الاشتراك من المعنى بين المستثنى والمستثنى منه ، وإلا لصح استثناء كل شيء من كل شيء ، ضرورة أنه ما من شيئين إلا وهما مشتركان في معنى عام لهما ، وليس كذلك .
كيف وإنه لو قال القائل : جاء العلماء إلا الكلاب ، وقدم الحجاج إلا الحمير كان مستهجنا لغة وعقلا ، وما هذا شأنه لا يكون وضعه مضافا إلى أهل اللغة ؟
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن الاستثناء مأخوذ من الثني ، بل من التثنية ، وكأن الكلام كان واحدا فثني ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .
فإن قيل : لو كان الاستثناء مأخوذا من التثنية ؛ لكان كل ما وجد فيه معنى التثنية من الكلام استثناء ، وليس كذلك .
قلنا : ولو كان مأخوذا من الثني لكان كل ما وجد فيه الثني والعطف استثناء ، وليس كذلك .
ولهذا لا يقال لمن عطف الثوب بعضه على بعض ، أو عطف عنان الفرس إنه استثناء .
قولكم : إن الاستثناء استخراج بعض ما تناوله اللفظ دعوى في محل النزاع ، وكيف يدعى ذلك مع قول الخصم بصحة الاستثناء من غير الجنس ، ولا دخول للمستثنى تحت المستثنى منه ؟
وما ذكرتموه من الاستقباح لا يدل على امتناع صحته في اللغة .
ولهذا ، فإنه لو قال القائل في دعائه : يا رب الكلاب والحمير وخالقهم ارزقني وأعطني كان مستهجنا ، وإن كان صحيحا من جهة اللغة والمعنى .
ثم وإن سلمنا امتناع صحة مطابقة ، فما المانع من صحته ، نظرا إلى ما وقع به الاشتراك بين المستثنى والمستثنى منه في المعنى اللازم [ ص: 293 ] المدلول للفظ مطابقة ؟ كما قال الاستثناء من نفس الملفوظ به إنه لو قال القائل : لفلان علي مائة درهم إلا ثوبا ، فإنه يصح ويكون معناه إلا قيمة ثوب لاشتراكهما في ثبوت صفة القيمة لهما ، وكما قاله الشافعي أبو حنيفة في استثناء المكيل من الموزون وبالعكس لاشتراكهما في علة الربا .
قولكم : لو صح ذلك لصح استثناء كل شيء من كل شيء ليس كذلك .
وما المانع أن تكون صحة ؟ كما إذا قال القائل : ليس لي نخل إلا شجر ولا إبل إلا بقر ولا بنت إلا ذكر ، ولا كذلك فيما إذا قال : ليس لفلان بنت إلا أنه باع داره . الاستثناء مشروطة بمناسبة بين المستثنى والمستثنى منه
وأما القائلون بالصحة فقد احتجوا بالمنقول والمعقول ، أما المنقول ، فمن جهة القرآن ، والشعر ، والنثر .
أما القرآن فقوله - تعالى - : ( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) ، وإبليس لم يكن من جنس الملائكة لقوله - تعالى - في آية أخرى : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) والجن ليسوا من جنس الملائكة ، ولأنه كان مخلوقا من نار على ما قال : ( خلقتني من نار ) والملائكة من نور ، ولأن إبليس له ذرية على ما قال - تعالى - : ( أفتتخذونه وذريته أولياء ) ، ولا ذرية للملائكة فلا يكون من جنسهم ، وهو مستثنى منهم .
وقوله - تعالى - : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) استثنى الباري - تعالى - من جملة ما كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها ، والباري - تعالى - ليس من جنس شيء من المخلوقات .
وقوله - تعالى - : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) استثنى الظن من العلم ، وليس من جنسه .
وقوله - تعالى - : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) استثنى السلام من اللغو ، وليس من جنسه ، وقوله - تعالى - : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ، والتجارة ليست من جنس الباطل ، وقد استثناها منه .
وقوله - تعالى - : ( فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ) استثنى الرحمة من نفي الصريخ والإنقاذ ، وليست من جنسه .
وقوله - تعالى - : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ومن رحم ليس بعاصم ، بل معصوم ، وليس المعصوم من جنس العاصم .
[ ص: 294 ] وقوله - تعالى - : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) استثنى الخطأ من القتل ، وليس من جنسه .
وأما الشعر : فمن ذلك قول القائل منهم :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
[1] والعيس ليست من جنس الأنيس .
وقال النابغة الذبياني :
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا أواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وقال :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
[2] وليس فلول السيوف عيبا لأربابها ، بل فخرا لهم ، وقد استثناها من العيوب ، وليست من جنسها .
وأما النثر فقول العرب : ما زاد إلا ما نقص ، وما بالدار أحد إلا الوتد ، وما جاءني زيد إلا عمرو .
استثنوا النقص من الزيادة والوتد من أحد ، وعمرا من زيد ، وليس من جنسه .
[ ص: 295 ] وأما المعقول فهو أن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فصح ، كاستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس .
ولقائل أن يقول : أما الآية الأولى فلا نسلم أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة .
قولكم : إنه كان من الجن ، قلنا : لا منافاة بين الأمرين ، فإنه قد قال وغيره من المفسرين : إن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن ؛ لأنهم كانوا خزان الجنان ، وكان إبليس رئيسهم ، وتسميته جنيا لنسبته إلى الجنة كما يقال : بغدادي ومكي . ابن عباس
ويحتمل أنه سمي بذلك لاجتنانه واختفائه ، ويدل على كونه من الملائكة أمران : الأول : أن الله - تعالى - استثناه من الملائكة ، والأصل أن يكون من جنسهم ؛ للاتفاق على صحة الاستثناء من الجنس ووقوع الخلاف في غيره .
الثاني : أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة ، بدليل قوله - تعالى - : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان عاصيا للأمر المتوجه إلى الملائكة لكونه ، ليس منهم ، إذ الأصل عدم أمر وراء ذلك الأمر .
ودليل عصيانه قوله - تعالى - : ( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) .
قولكم : إن إبليس له ذرية ليس في ذلك ما ينافي كونه من جنس الملائكة .
فلئن قلتم بأن التوالد لا يكون إلا من ذكر وأنثى ، والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله - تعالى - : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) ذكر ذلك في معرض الإنكار والتوعد على قول ذلك .
قلنا : إنما يلزم من ذلك الإناث في الملائكة أن لو امتنع حصول الذرية إلا من جنسين ، وهو غير مسلم .
قولكم : إن إبليس مخلوق من نار ، والملائكة من نور لا منافاة أيضا بين ذلك وبين كونه من الملائكة .
وأما الآية الثانية ، فاستثناء الرب - تعالى - فيها من المعبودين ، وذلك قوله : ( ما كنتم تعبدون ) ، وهم كانوا ممن يعبد الله مع الأصنام ؛ لأنهم كانوا مشركين لا جاحدين لله - تعالى - فلا يكون الاستثناء من غير الجنس .
[ ص: 296 ] وأما الآية الثالثة : فجوابها من وجهين : الأول : أن قوله - تعالى - : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) عام في كل ما يسمى علما ، والظن يسمى علما ودليله قوله - تعالى - : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) وأراد إن ظننتموهن ؛ لاستحالة اليقين بذلك ، وذلك إن كان من الأسماء المتواطئة فلا يكون الاستثناء من غير الجنس ، وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازية ، فهو من جملة الأسماء العامة كما سبق .
الثاني : أن ( إلا ) فيها ليست للاستثناء ، بل هي بمعنى ( لكن ) ، وكذلك الحكم فيما بعدها من الآيات .
وأما استثناء ( اليعافير والعيس ) من ( الأنيس ) فليس استثناء من غير الجنس ؛ لأنها مما يؤنس بها ، فهي من جنس الأنيس ، وإن لم تكن من جنس الأنس ، بل وقد يحصل الأنس بالآثار والأبنية والأشجار ، فضلا عن الحيوان .
وأما استثناء الأواري من أحد ، فإنما كان لأنه كما يطلق الأحد على الآدمي فقد يطلق على غيره من الحيوانات والجمادات ، ولذلك يقال : رأيت أحد الحمارين ، وركبت أحد الفرسين ، ورميت أحد الحجرين وأحد السهمين ، فلم يكن الاستثناء من غير الجنس من حيث إن الأواري مما يصدق عليها لفظة ( أحد ) وبتقدير أن لا يكون من الجنس فإلا ليست استثنائية حقيقة ، بل بمعنى ( لكن ) كما سبق .
وأما ( فلول السيوف ) فهو عيب في السيوف ، وإن كان يسبب فلولها فخرا ومدحة لأربابها فهو في الجملة استثناء من الجنس .
وقول العرب : ( ما زاد إلا ما نقص ) تقديره : ما زاد شيء إلا الذي نقص أي ينقص ، وهو استثناء من الجنس .
وقولهم : ( ما في الدار أحد إلا الوتد ) فجوابه كما سبق في الأواري من أحد .
وقوله : ( ما جاءني زيد إلا عمرو ) فإلا بمعنى ( لكن ) .
وما ذكروه من المعقول ، قولهم : إن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه ، فشيء لا إشعار له بصحة الاستثناء من غير الجنس .
[ ص: 297 ] وأما استثناء ( الدراهم ) من ( الدنانير ) وبالعكس ، فهو أيضا محل النزاع عند القائلين بعدم صحة الاستثناء من غير الجنس ، وإن تكلف بيان صحة الاستثناء من جهة اشتراكهما في النقدية وجوهرية الثمنية فآيل إلى الاستثناء من الجنس .