[ ص: 268 ] المسألة التاسعة عشرة
إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث ؟
اختلفوا فيه : فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك ، خلافا لبعض الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر ، وذلك كما لو قال بعض أهل العصر : إن الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا يمنع الرد ، وقال بعضهم : بالرد مع العقر ، فالقول بالرد مجانا قول ثالث .
وكذلك لو قال بعضهم : الجد يرث جميع المال مع الأخ ، وقال بعضهم : بالمقاسمة ، فالقول بأنه لا يرث شيئا قول ثالث .
وكذلك إذا قال بعضهم : النية معتبرة في جميع الطهارات ، وقال البعض : النية معتبرة في البعض دون البعض ، فالقول بأنها لا في شيء من الطهارات قول ثالث .
وفي معنى هذا ما لو قال بعضهم : بجواز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة ، وقال البعض : لا يجوز الفسخ بشيء منها ، فالقول بالفسخ بالبعض دون البعض قول ثالث .
وكذلك إذا قال بعضهم في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين : للأم ثلث في المسألتين ، وقال بعضهم : لها ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج والزوجة ، فالقول بأن لها ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث ما يبقى في المسألة الأخرى ؛ قول ثالث .
احتج على امتناع القول الثالث بأنه لو جاز القول الثالث فإما أن لا يكون له دليل أو له دليل . الغزالي
فإن كان الأول ، فالقول به ممتنع [1] ، وإن كان الثاني يلزم منه نسبته الخطأ إلى الأمة بنسبتهم إلى تضييعه والغفلة عنه [2] ، وهو محال وهو ضعيف .
فإنه إنما يلزم [ ص: 269 ] من ذلك نسبة الأمة إلى الخطأ ، أن لو كان الحق في المسألة معينا وهو ليس كذلك على ما سيأتي [3] ، وإذا كان كل مجتهد مصيبا فالتخطئة تكون ممتنعة .
واحتج على ذلك بأن الأمة إذا اختلفت على قولين ، فقد أجمعت من جهة المعنى على المنع من إحداث قول ثالث ; لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو بقول مخالفها ، ويحرم الأخذ بغير ذلك وهو ضعيف أيضا ، وذلك لأن الخصم إنما يسلم إيجاب كل واحدة من الطائفتين الأخذ بقولها أو قول مخالفها بتقدير أن لا يكون اجتهاد الغير قد يفضي إلى القول الثالث . القاضي عبد الجبار
والمختار في ذلك إنما هو التفصيل ، وهو أنه إن كان القول الثالث مما يرفع ما اتفق عليه القولان فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع ، وذلك كما في مسألة الجارية المشتراة ، فإنه إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما امتناع الرد ، والرد مع العقر فالقولان متفقان على امتناع الرد مجانا ، فالقول به يكون خرقا للإجماع السابق .
وكذلك في مسألة الجد ، فإنه إذا اتفقت الأمة على قولين وهما : استقلاله بالميراث ومقاسمته للأخ ، فقد اتفق الفريقان على أن للجد قسطا من المال ، فالقول الحادث أنه لا يرث شيئا يكون خرقا للإجماع .
وكذلك في مسألة النية في الطهارة إذا اتفقت الأمة فيها على قولين ، وهما اعتبار النية في جميع الطهارات وعلى اعتبارها في البعض دون البعض فقد اتفق القولان على اعتبارها في البعض ، فالقول المحدث النافي لاعتبارها مطلقا يكون خرقا للإجماع السابق .
وأما إن كان القول الثالث لا يرفع ما اتفق عليه القولان ، بل وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه ، فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع .
وذلك كما لو قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات ، وقال البعض بنفي اعتبارها في جميع الطهارات ، فالقول الثالث وهو اعتبارها في البعض دون البعض لا يكون خرقا للإجماع ; لأن خرق الإجماع إنما هو القول بما [ ص: 270 ] يخالف ما اتفق عليه أهل الإجماع ، وهاهنا ليس كذلك ، فإن القائل بالنفي في البعض والإثبات في البعض قد وافق في كل صورة مذهب ذي مذهب ، فلم يكن مخالفا للإجماع لا في صورة اعتبار النية لكونه موافقا لقول من قال باعتبارها في الكل ، ولا في صورة النفي لكونه موافقا لمن قال بنفي الاعتبار في الكل .
وكذلك لو قال بعضهم بأنه لا يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب ، وقال بعضهم بجواز قتل المسلم بالذمي وبصحة بيع الغائب ، فمن قال بجواز قتل المسلم بالذمي وبنفي صحة بيع الغائب أو بالعكس لم يكن خارقا للإجماع من غير خلاف ، وكان ذلك جائزا له ، وعلى هذا يكون الحكم في مسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة [4] .
فإن قيل : فمن قال بالإثبات مطلقا لم يقل بالتفصيل ، وكذلك من قال بالنفي مطلقا ، فالقول بالتفصيل قول لم يقل به قائل .
قلنا : وعدم القائل به مما لا يمنع من القول به وإلا لما جاز أن يحكم في واقعة متجددة بحكم إذا لم يكن قد سبق فيها لأحد قول ، وهو خلاف الإجماع .
فإن قيل : فكل من القائلين بالنفي والإثبات مطلقا قائل بنفي التفصيل ؛ فالقول بالتفصيل يكون خرقا للإجماع .
قلنا : لا نسلم ذلك ، فإن قول كل واحد منهما بنفي التفصيل إما أن يعرف من صريح مقاله أو من قوله بالنفي أو الإثبات مطلقا ، الأول ممنوع حتى أن كل واحد من الفريقين لو صرح بنفي التفصيل لما ساغ القول بالتفصيل ، والثاني غير مستلزم للقول بنفي التفصيل وإلا لامتنع القول بالتفصيل فيما ذكرناه من مسألة المسلم بالذمي وبيع الغائب ، وهو ممتنع .
فإن قيل : القول بالتفصيل فيه تخطئة كل واحد من الفريقين في بعض ما ذهب إليه ، وتخطئة الفريقين تخطئة للأمة ، وذلك محال .
[ ص: 271 ] قلنا : المحال إنما هو تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه ، وأما تخطئة كل بعض فيما لم يتفق عليه لا يكون محالا ، وعلى هذا يجوز انقسام الأمة إلى قسمين ، وكل قسم مخطئ في مسألة لما ذكرناه وإن خالف فيه الأكثرون .
( شبه المخالفين )
الأولى : أن اختلاف الأمة على قولين دليل تسويغ الاجتهاد ، والقول الثالث حادث عن الاجتهاد فكان جائزا .
الثانية : أنهم قالوا : أجمعنا على أن الصحابة لو انقرض عصرهم وكانوا قد استدلوا في مسألة من المسائل بدليلين فإنه يجوز للتابعي الاستدلال بدليل ثالث ، فكذلك القول الثالث .
الثالثة : أنهم قالوا : دليل جواز إحداث قول ثالث الوقوع من غير إنكار من الأمة ، فمن ذلك أن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين ، فقال : للأم ثلث الأصل بعد فرض الزوج والزوجة ، وقال الباقون : للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة وقد أحدث التابعون قولا ثالثا ، فقال ابن عباس ابن سيرين [5] بقول في زوج وأبوين دون الزوجة والأبوين ، وقال تابعي آخر بالعكس . ابن عباس
ومن ذلك أن الصحابة اختلفوا في قوله ( أنت علي حرام ) [6] على ستة أوجه ، فأحدث مسروق وهو من التابعين مذهبا سابعا وهو أنه لا يتعلق بقوله حكم .
والجواب عن الشبهة الأولى : أن ذلك يدل على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم : الأول مسلم ، والثاني ممنوع .
وعن الثانية بالفرق ، وبيانه من وجهين :
الأول أن الاستدلال بدليل ثالث يؤكد ما صارت إليه الأمة من الحكم ، ولا يبطله ، بخلاف القول الثالث على ما حققناه .
[ ص: 272 ] الثاني أن اتفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ، ومع ذلك فإن اتفاقهم على حكم واحد مانع من إبداع حكم آخر مخالف له فافترقا .
وعن الثالثة : أما مسألة الزوج والزوجة مع الأبوين فهي من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه الفريقان ، بل قول وغيره من التابعين فيما ذهبا إليه غير مخالف للإجماع ، بل هو قائل في كل صورة بمذهب ذي مذهب كما قررناه ، وبتقدير أن يكون رافعا لما اتفق عليه الفريقان فلا يخلو إما أن يكون لم يستقر قول جميع الصحابة على القولين بل قول البعض ، أو قد استقر عليهما قول جميع الصحابة ، فإن كان الأول فليس فيه مخالفة الإجماع بل مخالفة البعض ، وإن كان الثاني فإما أن يكون قد خالفهم في وقت اتفاقهم على القولين أو بعد ذلك ، فإن كان الأول فهو من أهل الإجماع وقد خالفهم حالة اتفاقهم على القولين ، فلا يكون بذلك خارقا للإجماع ، وإن قدر إحداث قوله بعد ذلك فهو مردود غير مقبول ، وعدم نقل الإنكار لا يدل على عدمه في نفسه ، وعلى هذا يكون الجواب في مسألة ( أنت علي حرام ) . ابن سيرين