[ ص: 252 ] المسألة الرابعة عشرة
اختلفوا فيما إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم ، وعرف به أهل عصره ولم ينكر عليه منكر ، هل يكون ذلك إجماعا ؟
فذهب وأكثر أصحاب أحمد بن حنبل أبي حنيفة وبعض أصحاب ، الشافعي والجبائي إلى أنه إجماع وحجة .
لكن من هؤلاء من شرط في ذلك انقراض العصر كالجبائي .
وذهب إلى نفي الأمرين وهو منقول عن الشافعي داود وبعض أصحاب أبي حنيفة .
وذهب أبو هاشم إلى أنه حجة وليس بإجماع .
وذهب من أصحاب أبو علي بن أبي هريرة إلى أنه إن كان ذلك حكما من حاكم لم يكن إجماعا ، وإن كان فتيا كان إجماعا . الشافعي
وقد احتج النافون لكونه إجماعا بأن سكوت من سكت يحتمل أن يكون لأنه موافق ، ويحتمل أنه لم يجتهد بعد في حكم الواقعة ، ويحتمل أنه اجتهد لكن لم يؤد اجتهاده إلى شيء ، وإن أدى إلى شيء فيحتمل أن يكون ذلك الشيء مخالفا للقول الذي ظهر ، لكنه لم يظهره إما للتروي والتفكر في ارتياد وقت يتمكن من إظهاره ، وإما لاعتقاده أن القائل بذلك مجتهد ولم ير الإنكار على المجتهد ؛ لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب ، أو لأنه سكت خشية ومهابة وخوف ثوران فتنة ، كما نقل عن أنه وافق ابن عباس عمر في مسألة العول وأظهر النكير بعده ، وقال : هبته وكان رجلا مهيبا ، وإما لظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار وهو مخطئ فيه .
ومع هذه الاحتمالات فلا يكون سكوتهم مع انتشار قول فيما بينهم إجماعا ولا حجة .
[ ص: 253 ] وأما حجة أن العادة جارية بأن الحاضر مجالس الحكام يحضر على بصيرة من خلافهم له فيما ذهب إليه من غير إنكار لما في الإنكار من الافتيات عليهم ; ولأن حكم الحاكم يقطع الخلاف ويسقط الاعتراض ، بخلاف قول المفتي ، فإن فتواه غير لازمة ولا مانعة من الاجتهاد ، وفي هاتين الحجتين نظر : ابن أبي هريرة
أما الأولى : فما ذكر فيها من الاحتمالات وإن كانت منقدحة عقلا ، فهي خلاف الظاهر من أحوال أرباب الدين وأهل الحل والعقد .
أما احتمال عدم الاجتهاد في الواقعة فبعيد من الخلق الكثير والجم الغفير ، لما فيه من إهمال حكم الله تعالى فيما حدث مع وجوبه عليهم وإلزامهم به وامتناع تقليدهم لغيرهم مع كونهم من المجتهدين ؛ فإنه معصية ، والظاهر عدم ارتكابها من المتدين المسلم .
وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شيء من الأحكام فبعيد أيضا ؛ لأن الظاهر أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه ، والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد إنما هو الاطلاع عليها والظفر بها .
وأما احتمال تأخير الإنكار للتروي والتفكر ، وإن كان جائزا ، غير أن العادة تحيل ذلك في حق الجميع ولا سيما إذا مضت عليهم أزمنة كثيرة حتى انقرض العمر من غير نكير .
وأما احتمال السكوت عنه لكونه مجتهدا ، فذلك مما لا يمنع من مباحثته ومناظرته وطلب الكشف عن مأخذه ، لا بطريق كالعادة الجارية من زمن الصحابة إلى زمننا هذا بمناظرة المجتهدين وأئمة الدين فيما بينهم ; لتحقيق الحق وإبطال الباطل ، كمناظرتهم في مسائل الجد والإخوة ، وقوله : أنت علي حرام ، والعول ، ودية الجنين ونحو ذلك من المسائل .
وأما احتمال التقية فبعيد أيضا ، وذلك لأن التقية إنما يكون فيما يحتمل المخافة ظاهرا ، وليس كذلك لوجهين :
الأول أن مباحث المجتهدين غير مستلزمة لذلك ; وذلك لأن الغالب من حال المجتهد وهو من سادات أرباب الدين ، أن مباحثته فيما ذهب إليه لا توجب خيفة على نفسه ، ولا حقدا في صدره تخاف عاقبته ، إذ هو خلاف مقتضى الدين .
[ ص: 254 ] الثاني أنه إما أن يكون خاملا غير مخوف ، فلا تقية بالنسبة إليه وإن كان ذا شوكة وقوة كالإمام الأعظم ، فمحاباته في ذلك تكون غشا في الدين ، والكلام معه فيه يعد نصحا .
والغالب إنما هو سلوك طريق النصح وترك الغش من أرباب الدين كما نقل عن علي في رده على عمر في عزمه على إعادة الجلد على أحد الشهود على المغيرة [1] بقوله : " إن جلدته ، ارجم [2] صاحبك " .
ورد معاذ عليه في عزمه على جلد الحامل بقوله : إن جعل الله لك على ظهرها سبيلا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلا ، حتى قال عمر : لولا معاذ لهلك عمر .
ومن ذلك رد المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة في مهور النساء بقولها : أيعطينا الله تعالى بقوله : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) ، ويمنعنا عمر ، حتى قال عمر : امرأة خاصمت عمر فخصمته .
ومن ذلك قول عبيدة السلماني لعلي عليه السلام لما ذكر أنه قد تجدد له رأي في بيع أمهات الأولاد : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ، إلى غير ذلك من الوقائع .
وأما حجة فإنما تصح بعد استقرار المذاهب ، وأما قبل ذلك فلا نسلم أن السكوت لا يكون إلا عن رضا ، وعلى هذا ابن أبي هريرة ظني والاحتجاج به ظاهر لا قطعي . فالإجماع السكوتي