[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] الفصل الثاني : في حد الأمر بمعنى القول
اختلف في ، فقال القاضي حد الأمر بمعنى القول أبو بكر ، وارتضاه جماعة من أهل الأصول إنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به . قال في المحصول : وهذا خطأ لوجهين :
أما أولا : فلأن لفظي المأمور والمأمور به ، مشتقان من الأمر ، فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر ، فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور .
وأما ثانيا : فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر ، وعند المعتزلة موافقة الإرادة ، فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر ، فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور .
وقال أكثر المعتزلة في حده : إنه قول القائل لمن دونه افعل ، أو ما يقوم مقامه .
قال في المحصول : وهذا خطأ من وجوه :
الأول : أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظة ( افعل ) لشيء أصلا ، حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ، ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع دونه لا يقال فيه إنه أمر ، ولو أنها صدرت عن النائم ، أو الساهي ، أو على سبيل انطلاق اللسان بها اتفاقا ، أو على سبيل الحكاية ، لا يقال فيه : إنه أمر ، ولو قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى الأمر لفظ افعل ، وبإزاء معنى الخبر لفظة افعل ، لكان المتكلم بلفظ افعل آمرا ، وبلفظ افعل مخبرا ، فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل .
الوجه الثاني : أن ، وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات ، فإن التركي قد يأمر وينهى ، وما ذكروه لا يتناول إلا الألفاظ العربية . تحديد ماهية الأمر من حيث هو أمر
فإن قلت : قولنا أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين الذين ذكرتهما .
قلت : قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائما مقامه في الدلالة ، على كونه طلبا للفعل ، أو يعني به شيئا آخر ، فإن كان المراد هو الثاني ، فلابد من بيانه ، وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه في [ ص: 290 ] الدلالة على طلب الفعل ، وإذا ذكرناه على هذا الوجه كان قولنا : الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل كافيا ، وحينئذ يقع التعرض بخصوص صيغة افعل ضائعا .
الوجه الثالث : أنا سنبين أن الرتبة غير معتبرة ، وإذا ثبت فساد هذين الحدين ، فنقول : الصحيح أن يقال : الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ، ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير . انتهى .
ولا يخفاك أن ما أجاب به من هذه الوجوه الثلاثة لا يرد على ذلك الحد . أما الوجه الأول فتقدير الإهمال أو الصدور ، لا عن قصد ليس مما يقتضي النقض به لخروجه عن الكلام المعتبر عند أهل اللغة ، وأما النقض بغير لغة العرب فغير وارد ، فإن مراد من حد الأمر بذلك الحد ليس إلا باعتبار ما يقتضيه لغة العرب لا غيرها ، وأما عدم اعتبار الرتبة فمصادرة على المطلوب ، ويرد على الحد الذي ارتضاه آخر ، وقال : إنه الصحيح ، النهي ، فإنه طلب الفعل بالقول ; لأن الكف فعل ، ويرد على قيد الاستعلاء قوله تعالى حكاية عن فرعون فماذا تأمرون والأصل الحقيقة .
وقد أورد على الحد الذي ذكرته المعتزلة أنه يرد على طرده قول القائل : " لمن دونه افعل " تهديدا أو تعجيزا أو غيرهما ، فإنه يرد لمعان كثيرة كما سيأتي ، ويرد في طرده أيضا ، إذا صدر عن مبلغ لأمر الغير ، أو حاك له ، ويرد على عكسه " افعل " إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء ، ولذلك يذم بأنه أمر من هو أعلى منه . قول القائل لمن دونه افعل
وأجيب عن الإيراد الأول : بأن المراد قول افعل مرادا به ما يتبادر منه عند الإطلاق .
وعن الثاني : بأنه ليس قولا لغيره افعل .
وعن وعن الثالث : بمنع كونه أمرا عندهم لغة ، وإنما سمي به عرفا .
وقال قوم في حده : هو صيغة افعل مجردة عن القرائن الصارفة عن الأمر .
واعترض عليه : بأنه تعريف الأمر بالأمر ، ولا يعرف الشيء بنفسه ، وإن أسقط هذا القيد بقي صيغة " افعل " مجردة فيلزم تجرده مطلقا ، حتى عما يؤكد كونه أمرا .
وأجيب عنه : بأن المراد القرائن الصارفة عما يتبادر منها إلى الفهم عند إطلاقها .
[ ص: 291 ] وقيل في حده : هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء .
واعترض على عكسه باكفف ، وانته ، واترك ، وذر ، فإنها أوامر لا يصدق عليها الحد ; لعدم اقتضاء الفعل غير الكف فيها .
واعترض على طرده بلا تترك ، ولا تنته ، ونحوهما ; فإنها نواه ويصدق عليها الحد .
وأجيب : بأن المحدود هو النفسي ، فيلتزم أن معنى لا تترك معنى الأمر النفسي ، ومعنى اكفف وذر وذر النهي ، فاطرد وانعكس .
وقيل في حده : هو صيغة افعل بإرادات ثلاث ، وجود اللفظ ، ودلالتها على الأمر ، والامتثال .
واحترز بالأولى عن النائم ، إذ يصدر عنه صيغة افعل من غير إرادة وجود اللفظ ، وبالثانية عن التهديد والتخيير والإكرام والإهانة ونحوها ، وبالثالثة عن الصيغة التي تصدر عن المبلغ والحاكي ، فإنه لا يريد الامتثال .
واعترض عليه : بأنه إن أريد بالأمر المحدود اللفظ ، أي أي الأمر الصيغي ، فذلك الحد إرادة دلالتها ، أي أي الصيغة على الأمر ; لأن اللفظ غير مدلول عليه ، وإن أريد بالأمر المحدود المعنى النفسي أفسد الحد جنسه ، فإن المعنى ليس بصيغة .
وأجيب : بأن المراد بالمحدود اللفظ ، وبما في الحد المعنى الذي هو الطلب ، واستعمل المشترك الذي هو لفظ الأمر في معنييه اللذين هما الصيغة المعلومة ، والطلب بالقرينة العقلية .
وقيل في حده : أنه إنه إرادة الفعل .
واعترض عليه : بأنه غير جامع لثبوت الأمر ، ولا إرادة ، كما في أمر السيد لعبده بحضرة من توعد السيد على ضربه لعبده بالإهلاك ، إن ظهر أنه لا يخالف أمر سيده ، والسيد يدعي مخالفة العبد في أمره ، ليدفع عن نفسه الإهلاك ، فإنه يأمر عبده بحضرة المتوعد له ليعصيه ، ويشاهد المتوعد عصيانه ، ويخلص من الهلاك ، فها هنا قد أمر ، وإلا لم يظهر عذره ، وهو مخالف الأمر ، ولا يريد منه العمل ; لأنه لا يريد ما يفضي إلى هلاكه ، وإلا كان مريدا هلاك نفسه وإنه محال .
[ ص: 292 ] وأجيب عنه : بأنه مثله يجيء في الطلب ; لأن العاقل لا يطلب ما يستلزم هلاكه ، وإلا كان طالبا لهلاكه ، ودفع بالمنع ; لجواز أن يطلب العاقل الهلاك لغرض إذا علم عدم وقوعه .
ورد هذا الدفع : بأن ذلك إنما يصح في اللفظي ، أما النفسي ، فالطلب النفسي كالإرادة النفسية ، فلا يطلب الهلاك بقلبه كما لا يريده .
وقال : لو كان الأمر إرادة لوقعت المأمورات بمجرد الأمر ; لأن الإرادة صفة تخصص المقدور بوقت وجوده ، فوجودها فرع وجود مقدور مخصص ، والثاني باطل ; لأن إيمان الكفار المعلوم عدمه عند الله تعالى لا شك أنه مأمور به ، فيلزم أن يكون مرادا ، ويستلزم وجوده مع أنه محال . الآمدي
وأجيب عن هذا : بأن ذلك لا يلزم من حد الأمر بإرادة الفعل ; لأنه من المعتزلة ، والإرادة عندهم بالنسبة إلى العباد ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر وبالنسبة إليه سبحانه وتعالى العلم بما في الفعل من من المصلحة .
إذا تقرر لك ما ذكرنا وعرفت ما فيه ، فاعلم أن الأولى بالأصول تعريف الأمر الصيغي ; لأن بحث هذا العلم عن الأدلة السمعية ، وهي الألفاظ الموصلة من حيث المعلوم بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام . والأمر الصيغي في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة ، سواء كانت على سبيل الاستعلاء ، أو لا ، وعند أهل اللغة في صيغته المعلومة المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو ألف ميم راء ، بخلاف فعل الأمر نحو اضرب ، فإنه لا يشترط فيه ما ذكر بل يصدق مع العلو وعدمه ، وعلى هذا أكثر أهل الأصول .
ولم يعتبر الأشعري قيد العلو ، وتابعه أكثر الشافعية ، واعتبر العلو المعتزلة جميعا جميعا إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني من الشافعية .