هل يعتبر في الإجماع المجتهد المبتدع ، إذا كانت بدعته تقتضي تكفيره ؟
فقيل : لا يعتبر في الإجماع . قال الزركشي : بلا خلاف ، لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة ، وإن لم يعلم هو كفر نفسه . قال الصفي الهندي : لو ثبت لكان لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك الاعتقاد ; لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره لو ثبت كفره ، وإثبات كفره بإجماعنا وحده دور .
وأما إذا وافقنا هو على ما ذهب إليه كفر ، فحينئذ يثبت كفره ; لأن قوله معتبر في الإجماع على أنه كافر ، لا لإجماعنا وحده ، وأما إذا اعتقد ما لا يقتضي التكفير ، بل التضليل والتبديع ، فاختلفوا فيه على أقوال : الأول : اعتبار قوله في الإجماع ، لكونه من أهل الحل والعقد . قال الهندي وهو الصحيح .
الثاني : لا يعتبر ، قال الأستاذ أبو منصور قال أهل السنة : لا يعتبر في [ ص: 254 ] الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة .
وهكذا رواه أشهب عن مالك ورواه عن العباس بن الوليد ، ورواه الأوزاعي أبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن وحكاه عن أئمة الحديث . أبو ثور
قال : ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم ، وإن اختلفت بهم الأهواء ، كمن قال بالقدر ، ومن رأى الإرجاء ، وغير ذلك من اختلاف آراء أبو بكر الصيرفي أهل الكوفة والبصرة ، إذا كان من أهل الفقه .
فإذا قيل : قالت الخطابية والرافضة كذا لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه ; لأنهم ليسوا من أهله .
قال الإجماع عندنا إجماع أهل العلم ، فأما من كان من أهل الأهواء ، فلا مدخل له فيه . ابن القطان
قال : قال أصحابنا في الخوارج : لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف ; لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه ، لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين .
[ ص: 255 ] وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي ، ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى ، واستقرأه من كلام أحمد لقوله : لا يشهد عندي رجل ليس هو عندي بعدل ، وكيف أجوز حكمه ؟ قال القاضي يعني الجهمي :
القول الثالث : أنه لا ينعقد عليه الإجماع ، وينعقد على غيره ، يعني أنه يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أدى إليه اجتهاده ، ولا يجوز لأحد أن يقلده ، كذا حكاه وتابعه المتأخرون . الآمدي
القول الرابع : التفصيل بين من كان من المجتهدين المبتدعين داعية ، فلا يعتبر في الإجماع ، وبين من لم يكن داعية ، فيعتبر . حكاه في كتاب الإحكام ونقله عن جماهير سلفهم من المحدثين ، قال : وهو قول فاسد ; لأنا نراعي العقيدة . ابن حزم
قال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق : أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس ، ونسبه إلى الجمهور ، وتابعهم إمام الحرمين ، قالوا : لأن من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر ، فهو كالعامي الذي لا معرفة له . والغزالي
ولا يخفاك أن هذا التعليل يفيد خروج من عرف القياس ، وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة ، فإنهم أنكروه عن علم به لا عن جهل له .
قال النووي في باب السواك من شرح مسلم : إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون .
وقال صاحب المفهم : جل الفقهاء والأصوليين أنه لا يعتد بخلافهم ، بل هم من جملة العوام ، وإن من اعتد بهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع ، والحق خلافه .
[ ص: 256 ] وقال في الملخص : يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ، ويمنع العموم ، ومن حمل الأمر على الوجوب ; لأن مدار الفقه على هذه الطرق . القاضي عبد الوهاب
وقال الجويني : المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنا ; لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها .
ويجاب عنه : بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها ، وتدبر آيات الكتاب العزيز ، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة ، علم بأن نصوص الشريعة تفي بجميع ما تدعو الحاجة إليها في جميع الحوادث ، وأهل الظاهر فيهم من أكابر الأئمة وحفاظ الشريعة المتقيدين بنصوص الشريعة ، جمع جم ، ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة ، التي لم يدل عليها كتاب ، ولا سنة ، ولا قياس مقبول .
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها ، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه ألبتة قليلة جدا .