واختلف في : فقيل : هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ، ويعسر عليه التعبير عنه . حقيقة
وقيل : هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى .
وقيل : هو العدول عن الحكم إلى العادة لمصلحة الناس .
قيل : تخصيص قياس بأقوى منه .
[ ص: 689 ] ونسب القول به إلى أبي حنيفة ، وحكي عن أصحابه ، ونسبه إلى إمام الحرمين مالك ، وأنكره القرطبي فقال : ليس معروفا من مذهبه ، وكذلك أنكر أصحاب أبي حنيفة ما حكي عن أبي حنيفة من القول به ، وقد حكي عن الحنابلة .
قال في المختصر : قالت به الحنفية ، والحنابلة ، وأنكره غيرهم انتهى . ابن الحاجب
وقد أنكره الجمهور ، حتى قال من استحسن فقد شرع . الشافعي :
قال الروياني : معناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعا غير الشرع .
وفي رواية عن أنه قال : الشافعي باطل . القول بالاستحسان
وقال في الرسالة : الاستحسان تلذذ ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين ; لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب ، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا . الشافعي
قال جماعة من المحققين : الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه ; لأنهم ذكروا في تفسيره أمورا لا تصلح للخلاف ; لأن بعضها مقبول اتفاقا ، وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا ، وما هو مردود اتفاقا ، وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى ، وقول من قال : إنه تخصيص قياس بأقوى منه ، وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال : " إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ، ويعسر عليه التعبير عنه " ; لأنه إن كان معنى قوله : " ينقدح " أنه يتحقق ثبوته ، فالعمل به واجب عليه ، ( فهو مقبول ) اتفاقا ، وإن كان بمعنى أنه شاك ، فهو مردود اتفاقا ، إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك .
وجعلوا من المتردد أيضا قول من قال : إنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس . فقالوا : إن كانت العادة هي الثابتة في زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد ثبت بالسنة ، وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة ، من غير إنكار ، فقد ثبت بالإجماع ، وأما غيرها فإن كان نصا وقياسا ، مما ثبت حجيته ، فقد ثبت ذلك به ، وإن كان شيئا آخر ، لم تثبت حجيته ، فهو مردود قطعا .
[ ص: 690 ] وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو القول بأقوى الدليلين ، كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر .
قال : وهذا هو الدليل ، فإن سموه استحسانا فلا مشاحة في التسمية .
وقال الأبياري : الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان ، لا على ما سبق بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ، فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس .
ومثاله : لو اشترى سلعة بالخيار ، ثم مات وله ورثة ، فقيل : يرد ، وقيل : يختار الإمضاء .
قال أشهب : القياس الفسخ ، ولكنا نستحسن إن أراد الإمضاء ، أن يأخذ من لم يمض ، إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد .
قال ابن السمعاني : إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان ، ويشتهيه من غير دليل ; فهو باطل ، ولا أحد يقول به ، ثم ذكر أن الخلاف لفظي ، ثم قال : فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به ( والذي يقولون به أنه العدول في الحكم من ) دليل إلى دليل أقوى منه ، فهذا مما لم ينكره ( أحد عليه ) ، لكن هذا الاسم لا يعرف اسما لما ( يقال به ) وقد سبقه إلى مثل هذا القفال ، فقال : إن كان المراد بالاستحسان ما دلت الأصول بمعانيها ، فهو حسن ; لقيام الحجة به ، قال : فهذا لا ننكره ونقول به ، وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه ، من غير حجة دلت عليه ، من أصل ونظير ، فهو محظور ، والقول به غير سائغ .
قال بعض المحققين : الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على ضربين :
( أحدهما ) : واجب الإجماع ، وهو أن يقدم الدليل الشرعي ، أو العقلي ، لحسنه ، [ ص: 691 ] فهذا يجب العمل به ; لأن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع .
( والضرب الثاني ) : أن يكون على مخالفة الدليل ، مثل أن يكون الشيء محظورا بدليل شرعي ، وفي عادات الناس ( إباحته ، أو يكون في الشرع دليل يغلظه ، وفي عادات الناس التخفيف ) فهذا عندنا يحرم القول به ، ويجب اتباع الدليل ، وترك العادة والرأي ، سواء كان ذلك الدليل نصا ، أو إجماعا ، أو قياسا انتهى .
فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلا ، لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار ، وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء ، بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة ، وبما يضادها أخرى .