أي : استصحاب الحال لأمر وجودي ، أو عدمي ، عقلي ، أو شرعي .
[ ص: 680 ] أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل ، مأخوذ من المصاحبة ، وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ما يغيره ، فيقال : الحكم الفلاني قد كان فيما مضى ، وكلما كان فيما مضى ، ولم يظن عدمه ; فهو مظنون البقاء . ومعناه
قال الخوارزمي في الكافي : وهو آخر مدار الفتوى ، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة ، يطلب حكمها في الكتاب ، ثم في السنة ، ثم في الإجماع ، ثم في القياس ، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات ، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه ، وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى .
واختلفوا على أقوال : هل هو حجة عند عدم الدليل
( الأول ) : أنه حجة ، وبه قالت الحنابلة ، والمالكية ، وأكثر الشافعية ، والظاهرية ، سواء كان في النفي أو الإثبات ، وحكاه عن الأكثرين . ابن الحاجب
( الثاني ) : أنه ليس بحجة ، وإليه ذهب أكثر الحنفية ، والمتكلمين ، كأبي الحسين البصري ، قالوا : لأن الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل ، فكذلك في الزمان الثاني ; لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون ، وهذا خاص عندهم بالشرعيات ، بخلاف الحسيات ، فإن الله سبحانه أجرى العادة فيها بذلك ، ولم يجر العادة به في الشرعيات ، فلا تلحق بالحسيات .
ومنهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي .
ومنهم من نقل عنه الخلاف مطلقا .
قال الصفي الهندي : وهو يقتضي تحقق الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا ، لكنه بعيد ، إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة .
قال الزركشي : والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصلح حجة على الغير ، ولكن [ ص: 681 ] يصلح للرفع والدفع .
وقال أكثر المتأخرين منهم : إنه حجة لإبقاء ما كان ، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن ( وذلك كحياة المفقود ، فإنه لما كان الظاهر بقاءها ; صلح حجة لإبقاء ما كان ، فلا يورث ماله ، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن فلا يرث عن أقاربه ) .
( الثالث ) : أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله - عز وجل - فإنه لم يكلف إلا ما يدخل تحت مقدوره ، فإذا لم يجد دليلا سواه ، جاز له التمسك به ، ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة ، فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله : لم أجد دليلا على هذا ; لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل .
( الرابع ) : أنه يصلح حجة للدفع لا للرفع ، وإليه ذهب أكثر الحنفية ، قال إلكيا : ويعبرون عن هذا بأن استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان ; إحالة على عدم الدليل ، لا لإثبات أمر لم يكن ، وقد قدمنا أن هذا قول أكثر المتأخرين منهم .
( الخامس ) : أنه يجوز الترجيح به لا غير ، نقله الأستاذ أبو إسحاق عن ، وقال : إنه الذي يصح عنه ، لا أنه يحتج به . الشافعي
( السادس ) : أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه ، صح ذلك ، وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه ، من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فلا يصح . حكاه الأستاذ ، عن بعض أصحاب أبو منصور البغدادي . الشافعي
قال الزركشي : لا بد من تنقيح موضع الخلاف ، فإن أكثر الناس يطلقه ، ويشتبه عليهم موضع النزاع ، فنقول : للاستصحاب صور
( إحداها ) : استصحاب ما دل العقل والشرع على ثبوته ودوامه ، كالملك عند جريان القول المقتضي له ، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ، ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح ، فهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض .
قال : ( الثانية ) : استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية ، كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره ، كنفي صلاة سادسة .
قال : وهذا حجة بالإجماع أي من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع . القاضي أبو الطيب
[ ص: 682 ] فإن : ( الثالثة ) : استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة ، فإن عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي ، وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به ; لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات .
قال : ( الرابعة ) : استصحاب الدليل ، مع احتمال المعارض ، إما تخصيصا إن كان الدليل ظاهرا ، أو نسخا إن كان الدليل نصا ، فهذا أمر معمول به بالإجماع .
وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب ، فأثبته جمهور الأصوليين ، ومنعه المحققون ، منهم في البرهان ، إمام الحرمين وإلكيا في تعليقه ، وابن السمعاني في " القواطع " ; لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ ، لا من ناحية الاستصحاب .
قال : ( الخامسة ) : الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي ، بأن يتفق على حكم في حالة ، ثم تتغير صفة المجمع عليه ، فيختلفون فيه ، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال .
مثاله : إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته ; لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك ، فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة .
وكقول الظاهرية يجوز بيع أم الولد ; لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد ، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد .
وهذا النوع هو محل الخلاف ، كما قاله في القواطع وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها ، فذهب الأكثرون منهم القاضي ، والشيخ ، أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ ، ، إلى أنه ليس بحجة . والغزالي
قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف .
وقال الماوردي ، ، في كتاب القضاء : إنه قول والروياني وجمهور العلماء ، فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب ، بل إن اقتضى القياس أو غيره إلحاقه بما قبل ألحق به وإلا فلا . الشافعي
[ ص: 683 ] قال : وذهب ، أبو ثور إلى الاحتجاج به ، ونقله وداود الظاهري ابن السمعاني عن المزني ، وابن سريج ، والصيرفي ، ، وحكاه وابن خيران الأستاذ أبو منصور عن أبي الحسين بن القطان ، قال : واختاره ، الآمدي وابن الحاجب .
قال في التقريب : إنه الذي ذهب إليه شيوخ أصحابنا ، فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه انتهى . سليم الرازي
والقول الثاني : هو الراجح ; لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل ، قائم في مقام المنع ، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك ، فمن ادعاه جاء به .