أما الكتاب فقوله تعالى : فاعتبروا ياأولي الأبصار .
ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الاعتبار مشتق من العبور ، وهو المرور ، يقال : عبرت على النهر ، ( وعبرت النهر ) والمعبر : الموضع الذي يعبر عليه ، والمعبر : السفينة التي يعبر فيها ، كأنها أداة العبور ، والعبرة : الدمعة التي عبرت من الجفن ، وعبر الرؤيا : جاوزها إلى ما يلازمها ، قالوا : فثبت بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة; فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك ، والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع ، فكان داخلا تحت الأمر .
قال في المحصول : فإن قيل : لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة ( فقط ) ، بل هو عبارة عن الاتعاظ لوجوه :
( الأول ) : أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي : إنه معتبر .
( الثاني ) : أن المتقدم في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر معاده يقال : إنه غير معتبر ، أو قليل الاعتبار .
( الثالث ) : قوله تعالى : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة والمراد الاتعاظ .
[ ص: 586 ] ( الرابع ) : يقال السعيد من اعتبر بغيره ، والأصل في الكلام الحقيقة ، فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ ، لا في المجاوزة ، فحصل التعارض بين ما قلتم ، وما قلنا ، فعليكم بالترجيح ، ثم الترجيح معنا ، فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرناه .
سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة ، لكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع ، وقد وجد ها هنا مانع ؛ فإنه لو قال : " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " فقيسوا الذرة على البر; كان ذلك ركيكا ، لا يليق بالشرع ، وإذا كان كذلك; ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقة .
سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة ، لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي .
بيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلوله; فقد عبر من الدليل إلى المدلول ، فسمي الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع ، وبالنص ، وبالبراءة الأصلية ، وبالقياس من الشرع ، وكل واحد من هذه الأنواع يخالفه الآخر بخصوصيته ، وما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز ، لا بلفظه ، ولا بمعناه ، فلا يكون دالا على النوع ، الذي ليس إلا عبارة من مجموع جهة الاشتراك ( وجهه الامتياز ، فلفظ الاعتبار غير دال على القياس الشرعي ، لا بلفظه ولا بمعناه ) .
قال : وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر :
( الأول ) : إذا نص الشارع على علة الحكم ، فها هنا القياس عندنا واجب .
( والثاني ) : قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف .
( والثالث ) : الأقيسة في الأمور الدنيا ، فإن العمل بها عندنا واجب .
( والرابع ) : أن يشبه الفرع بالأصل ، في أن لا نستفيد حكمه إلا من النص .
( والخامس ) : الاتعاظ والانزجار ، بالقصص والأمثال ، فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا ، يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر ، وثبت أن بيانه في صور كثيرة ، فلا يبقى فيه دلالة ألبتة على الأمر بالقياس الشرعي .
ثم قال : جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين :
[ ص: 587 ] ( الأول ) : أنه يقال : فلان ( اتعظ فاعتبر ) فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار ، وذلك يوجب التغاير .
( الثاني ) : أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ ، فإن الإنسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه ، لا يكون متعظا ، ثم أطال في تقرير هذا بما لا طائل تحته .
ويجاب عن الوجه الأول : بالمعارضة ، فإنه يقال : فلان قاس هذا على هذا ، فاعتبر ، والجواب الجواب .
ويجاب عن الثاني : بمنع وجود معنى المجاوزة في الاتعاظ ، فإن من نظر في شيء من المخلوقات ، فاتعظ به; لا يقال فيه : إنه متصف بالمجاوزة ، لا لغة ، ولا شرعا ، ولا عقلا .
وأيضا يمنع وجود المجاوزة في القياس الشرعي ، وليس ما يفيد ذلك ألبتة ، ولو كان القياس مأمورا به في هذه الآية لكونه فيه معنى الاعتبار; لكان كل اعتبار أو عبور مأمورا به ، واللازم باطل ، والملزوم مثله .
وبيانه أنه لم يقل أحد من المتشرعين ، ولا من العقلاء : أنه يجب على الإنسان أن يعبر من هذا المكان إلى هذا المكان ، أو يجري دمع عينه ، أو يعبر رؤيا الرائي ، مع أن هذه الأمور أدخل في معنى العبور والاعتبار من القياس الشرعي .
والحاصل أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي ، لا بمطابقة ، ولا تضمن ، ولا التزام ، ومن أطال الكلام في الاستدلال بها على ذلك; فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته .
واستدل في الرسالة على إثبات القياس بقوله تعالى : الشافعي فجزاء مثل ما قتل من النعم .
قال : فهذا تمثيل الشيء بعدله .
وقال تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم .
وأوجب " المثل " ، ولم يقل أي مثل ، فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا .
وأمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال ، وقال : " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " انتهى .
[ ص: 588 ] ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هو المجيء بمثل ذلك الصيد ، وكونه مثلا له موكول إلى العدلين ، ومفوض إلى اجتهادهما ، وليس في هذا دليل على القياس ، الذي هو إلحاق فرع بأصل; لعلة جامعة ، وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة; فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها ، وليس ذلك من القياس في شيء .
واستدل ابن سريج على إثبات القياس بقوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فأولو الأمر هم العلماء ، والاستنباط هو القياس .
ويجاب عنه : بأن الاستنباط هو استخراج الدليل عن المدلول ، بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص ، أو الإطلاق أو التقييد ، أو الإجمال أو التبيين في نفس النصوص ، أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه .
ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط; لكان ذلك مخصوصا ( بمثل القياس ) المنصوص على علته ، وقياس الفحوى ونحوه ، لا بما كان ملحقا بمسلك من مسالك العلة ، التي هي محض رأي ، لم يدل عليها دليل من الشرع ، فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله به ، بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به .
واستدل أيضا بقوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها الآية . قال : لأن القياس تشبيه الشيء بالشيء ، فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية ، فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز ، و ( يجاب به عنه بمنع كون هذا من القياس الشرعي ، ولا مما يدل عليه بوجه من وجوه الدلالة ، ولو سلمنا لجاز لنا أن نقول : على وجه المعارضة : إنما جاز ) ذلك من فعل من لا يخفى عليه خافية; لأنا نعلم أنه صحيح ، فلا يجوز من فعل من لا يخلو من الجهالة والنقص; لأنا لا نقطع بصحته ، بل ولا نظن ذلك ، لما في فاعله من الجهالة والنقص .
[ ص: 589 ] واستدل غيره أيضا بقوله تعالى : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة .
ويجاب عنه : بمنع كون هذه الآية تدل على المطلوب ، لا بمطابقة ، ولا تضمن ، ولا التزام ، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر اللاحق ، وكون المؤثر فيهما واحدا ، وذلك غير القياس الشرعي ، الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما .
واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وتقريره : أن العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم ، فيتناوله عموم الآية .
ويجاب عنه : بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه ، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها; فإنه لا تسوية إلا في الأمور المتوازنة ، ولا توازن إلا عند القطع بنفي الفارق ، لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ، ونوع من أنواع الظنون الزائفة ، وخصلة من خصال الخيالات المختلة .