[ ص: 89 ] المسألة الثالثة : في
وهو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر ، وضعا أولا من حيث هما كذلك . المشترك
فخرج بالوضع : ما يدل على الشيء بالحقيقة ، وعلى غيره بالمجاز ، وخرج بقيد أولا : المنقول ، وخرج بقيد الحيثية : المتواطئ ؛ فإنه يتناول الماهيات المختلفة ، لكن لا من حيث هي كذلك بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد .
وقد اختلف أهل العلم في المشترك ، فقال قوم : إنه واجب الوقوع في لغة العرب ، وقال آخرون : إنه ممتنع الوقوع . وقالت طائفة : إنه جائز الوقوع .
احتج القائلون بالوجوب : بأن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية ، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك ، ولا ريب في عدم تناهي المعاني ; لأن الأعداد منها وهي غير متناهية بلا خلاف .
واحتجوا ثانيا : بأن الألفاظ العامة - كالموجود ، والشيء - ثابتة في لغة العرب ، وقد ثبت أن وجود كل شيء نفس ماهيته ، فيكون وجود الشيء مخالفا لوجود الآخر ، مع أن كل واحد منهما يطلق عليه لفظ الموجود بالاشتراك .
وأجيب عن الدليل الأول : بمنع عدم تناهي المعاني ، إن أريد بها المختلفة أو المتضادة ، وتسليمه مع منع عدم وفاء الألفاظ بها إن أريد المتماثلة المتحدة في الحقيقة ، أو المطلقة ، فإن الوضع للحقيقة المشتركة كاف في التفهيم .
وأيضا : لو سلم عدم تناهي كل منها ، لكان عدم تناهي ما يحتاج إلى التعبير والتفهيم ممنوعا .
وأيضا : لا نسلم تناهي الألفاظ لكونها متركبة من المتناهي ، فإن أسماء العدد غير متناهية مع تركبها من الألفاظ المتناهية .
وأجيب عن الدليل الثاني : بأنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغة ، وإن سلمنا ذلك ، لا نسلم أن الموجود مشترك لفظي ، لم لا يجوز أن يكون مشتركا معنويا ؟ وإن سلمنا ذلك ، لم لا يجوز اشتراك الموجودات كلها في حكم واحد ، سوى الوجود [ ص: 90 ] وهو المسمى بتلك اللفظة العامة ؟
واحتج القائلون بالامتناع : بأن المخاطبة باللفظ المشترك لا يفيد فهم المقصود على التمام ، وما كان كذلك يكون منشأ للمفاسد .
وأجيب : بأنه لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام بسماع اللفظ المشترك ، لكن هذا القدر لا يوجب نفيه ; لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفيا ولا إثباتا ، والأسماء المشتقة لا تدل على تعيين الموصوفات البتة ، ولم يستلزم ذلك نفيها ، وكونها غير ثابتة في اللغة .
واحتج من قال بجواز الوقوع وإمكانه : بأن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم ، وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئا على التفصيل ، وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الإجمال ، بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة ، كما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لمن سأله عند الهجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هو ؟ فقال : هو رجل يهديني السبيل .
ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشيء على التعيين ، إلا أنه يكون واثقا بصحة وجود أحدهما لا محالة ، فحينئذ يطلق اللفظ المشترك ; لئلا يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك ، فإن أي معنى لا يصح ، فله أن يقول : إنه كان مرادي الثاني .
وبعد هذا كله فلا يخفاك أن المشترك موجود في هذه اللغة العربية ، لا ينكر ذلك إلا مكابر ، كالقرء ، فإنه مشترك بين الطهر والحيض ، مستعمل فيهما من غير ترجيح ، وهو معنى الاشتراك ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة .
وقد أجيب عن هذا بمنع كون القرء حقيقة فيهما ; لجواز مجازية أحدهما ، وخفاء موضع الحقيقة .
ورد : بأن المجاز إن استغنى عن القرينة التحق بالحقيقة وحصل الاشتراك ، وهو المطلوب وإلا فلا تساوي .
[ ص: 91 ] ومثل القرء العين ؛ فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة ، وكذا الجون مشترك بين الأبيض والأسود ، وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر ، وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء ، فهو أيضا واقع في الكتاب والسنة ، فلا اعتبار بقول من قال : إنه غير واقع في الكتاب فقط ، أو غير واقع فيهما لا في اللغة .