المسألة السابعة : في الرد على من أنكر الاستثناء
قد قال قائل : إن متعذر ; لأنه إذا قيل : قام القوم إلا زيدا ، فلا يخلو إما أن يكون داخلا في العموم ، أو غير داخل ، قال : والقسمان باطلان . الاستثناء في لغة العرب
أما الأول : فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة ، وإلا لزم توارد الإثبات والنفي على محل واحد ، وهو محال .
وأما الثاني : فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه .
وأجاب الجمهور عن هذا : بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد ، لو لم [ ص: 420 ] يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج ، أما إذا كان كذلك فلا توارد ، فإن المراد بقول القائل : جاءني عشرة إلا ثلاثة ، إنما هو سبعة ، و ( إلا ثلاثة ) قرينة إرادة السبعة من العشرة ، إرادة الجزء باسم الكل ، كما في سائر المخصصات للعموم .
ورده بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج ، والعشرة نص في مدلولها ، والنص لا يتطرق إليه تخصيص ، وإنما التخصيص في الظاهر . ابن الحاجب
قال الزركشي : وما قاله من الإجماع مردود فإن مذهب الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئا ، فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد ، وزيد مسكوت عنه ، لم يحكم عليه بالقيام ، ولا بنفيه .
قال بعض المحققين : وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا يستقيم غيره ; لأن الله سبحانه قال : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته ، فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف .
وأجاب القاضي : بأن قول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة ، بمنزلة سبعة من غير إخراج ، وأنهما كاسمين ، وضعا لمسمى واحد ، أحدهما مفرد ، والآخر مركب ، وجرى صاحب المحصول على هذا ، واختاره إمام الحرمين ، واستنكر قول الجمهور ، وقال : إنه محال لا يعتقده لبيب . أبو بكر الباقلاني
قال : وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد ; لأنا نقطع بأن دلالة الاستثناء بطريق الإخراج . ابن الحاجب
وأجاب آخرون : بأن المستثنى منه مراد بتمامه ، ثم أخرج المستثنى ، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا ، وإن كان قبله ذكرا ، فالمراد بقولك : ( عشرة إلا ثلاثة ) ، عشرة باعتبار الأفراد ، ثم أخرجت ثلاثة ، ثم أسند إلى الباقي تقديرا ، فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج .
قال : وهو الصحيح ، ورجحه ابن الحاجب الصفي الهندي ، وجماعة من أهل الأصول .
والفرق بين هذا الجواب ، والجواب الذي قبله بأن الأفراد في غير هذا مرادة [ ص: 421 ] بكمالها ، وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها ، والاستثناء إنما هو لتفسير النسبة للدلالة على عدم المراد .
وأيضا الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة ، أن جواب الجمهور يدل على أن الثلاثة تخصيص ، وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص ، وعلى الثالث محتملة ، فقيل الأظهر أنها تخصيص ، وقيل ليست بتخصيص .
قال المازري : أصل هذا الخلاف في الاستثناء من العدد ، هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة ، أو لم تغيره ، وإنما كشفت عن المراد بها ، فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها ، قال بالأول ، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ، ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفي ، ومن لم يجعل أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة ، جعل الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه ، كما دل قوله لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله . اقتلوا المشركين
قال فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في سبعة مجازا دل عليه قوله ( إلا ثلاثة ) ، والقاضي ، وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة ، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ، ثم حذفت منها ثلاثة ، ثم حكمت بالسبعة ، فكأنه قال له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة أو عشرة إلا ثلاثة له عندي ، وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه ، فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ، ثم أخرج الثلاثة ثم حكم ، كما أنك تخرج عشرة دراهم في الكيس ثم ترد منها إليه ثلاثة ، ثم تهب الباقي ، وهي السبعة . انتهى .
والظاهر : ما ذهب إليه الجمهور ; لأن الإسناد إنما يتبين معناه بجميع أجزاء الكلام ، وعلى كل حال ، فالمسألة قليلة الفائدة ; لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب ، [ ص: 422 ] تقررا مقطوعا به ، لا يتيسر لمنكر أن ينكره ، وتقرر أن ما بعد آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف ، وليس النزاع إلا في صحة توجيه ما تقرر وقوعه ، وثبت استعماله .
وما ذكرنا في المقام يكفي في ذلك ، ويندفع به تشكيك من شك في هذا الأمر المقطوع به ، فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل عليها .