صراع الحق مع الباطل قديم، قدم هذا الإنسان على هذا الكوكب، بل أقدم من ذلك، فمنذ أن خلق الله الإنسان وأمر الملائكة، ومن ضمنهم إبليس، بالسجود لآدم (فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[البقرة:34]، ومنذ تلك اللحظة حقد إبليس على بني آدم، بسبب تكريم الله لهذا المخلوق على باقي خلقه لما ميزه عنهم بالعقل والعلم، وأقسم الشيطان بالانتقام من هذا المخلوق وتسخير جميع ما أعطاه الله من قدرة لإغواء بني آدم ثم إلقائهم جميعًا في جهنم إلا فئة قليلة منهم وهم "المخلصون" المتبعون لمنهج الحق، فقال بحقد: (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء:62] أي لأستولين على ذريته إلا أولئك القليل.
ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك صراع بين هذه القلة التي تتواجد في كل عصر وبين أولئك الكثير الذين أضلهم إبليس وقادهم إلى جهنم، والصراع سببه إصرار إبليس على فتنة معظم بني آدم بكل ما يملك من الوسائل، وإصرار العصبة القليلة من أتباع الحق السائرين على منهج الهداية، على الثبات على هذا المنهج خوفًا من جهنم، وبين هذين الإصرارين ينتج الاحتكاك، ويكون الصراع بين الفريقين متخذا أشكالاً عدة، ومن أبرز أساليب اتباع الباطل والفساد هو إلقاء الشبهات واختلاق الأكاذيب واستعمال الحيل لتشويه نصاعة مسيرة أصحاب الحق حتى ينفر الناس منهم ولا يصدقوهم بما يقولون، لأن الناس جبلوا على كراهية من يخالف قوله فعله، هذا جانب من جوانب الحرب التي لاقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة.
حرب المصطلحات
جاء في السيرة النبوية: "وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله"، وكان يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا لا ترفعوا برأسه قولاً، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه." [انظر البداية والنهاية:3/141].
فوصف الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والشعر والكهانة ليفضوا الناس من حوله ويصدوا المدعوين عن دعوته وينفروهم من الجلوس معه أو الاستماع منه.
تكرر الصورة:
هذه الصورة تتكرر في كل عصر يشتد فيه ويعلو صوت الباطل، تتكرر في جميع زواياها، مع اختلاف فقط في الأوصاف والحيل لتلائم العصر المعاش.. فإذا كان أهل الباطل في الماضي يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه مجانين وسحرة وكهنة، فاليوم لا تتناسب هذه الشبهات مع عصر العلم الحديث، وإنما يقولون: "متعصبون"، والناس يكرهون التعصب، ويقولون: "طائفيون" والناس يكرهون التفرقة. ويقولون: "رجعيون" والناس يحبون التقدم. ويقولون: "إرهابيون، ومتطرفون، وانتحاريون"، ويقولون: "يريدون قلب نظام الحكم" لتخويف الأنظمة فتتسلط عليهم بالتضييق والتذبيح والسجن، ويخوفون الشعوب لأن الناس لا يحبون القلاقل والفوضى، ويحبون الاستقرار والنظام.
أنواع من الحيل
كانت "حرب المصطلحات" إحدى الحيل المستخدمة في ميدان المعركة الدائمة بين أصحاب الحق وزمرة الباطل، وللباطل حيل أخرى كثيرة فهم يدرسون كل فرد، أو كل مجموعة على حدة، دراسة مستفيضة يعرفون نقاط الضعف، ونقاط القوة في كل فرد وفي كل جماعة، ومن خلال هذه الدراسة يبدؤون بحياكة هذه الألاعيب، ونصب هذه الشباك، ليقع فيها من يقع من الدعاة، ومن أهم هذه الألاعيب:
الترغيب في المناصب والأموال
ويكون هذا باتجاهين إما بإعطائه أو منعه:
فالأول: يكون بعرض هذه المناصب العالية والدرجات على الداعية والتلميح له بها من أجل التنازل عن مبادئه، وقد حاول المشركون ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم حين عرضوا عليه الملك والجاه والمنصب، والمال والثراء، والزواج ممن يحب ويرغب.. فعرضوا عليه كل ما يتمناه المرء في دنياه كل ذلك ليغروه عن دينه ويبعدوه عن دعوته فما اغتر ولا انخدع، ولكنها تبقى حيلة يتصيد بها أهل الباطل أصحاب الدعوات.
فإذا لم تنجح تلك الحيلة في استمالة الداعية أو على الأقل تحييده استبدلوا التلويح بالعطاء بالتلويح بالمنع فتتوقف الدرجات والعلاوات، ويحرم من المناصب التي هو أهل لها، وتعطى لمن هو دونه لإغاظته، وربما عملوا على حرمانه من عمله بالكلية، وضيقوا عليه فيه كما هو الواقع في منع قبول الملتزمين والملتحين في الوظائف، وهو ما يسمونه باستراتيجية تجفيف المنابع .
هذا الوضع يجعل البعض يفكر جديًّا بتغيير هويته الإسلامية، والتنازل عن مبادئه في سبيل الحصول على ما فقده بسبب التزامه، وكم رأينا من أثرت فيه هذه الحيلة وابتعد عن الطريق، ولعمر الحق إن هذه لفتنة عظيمة في صورتيها.. ونسأل الله الثبات.
التخويف والتهديد:
وهي من الحيل التي يتبعها أهل الباطل في مواجهة أهل الحق خصوصا في بداية الدعوات وقد هُدد أصحاب الدعوات من الأنبياء والمرسلين.. فهؤلاء قوم نوح يقولون لنبيهم: "لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين"، وقال قوم لوط له: "لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين"، وقال قوم شعيب: "لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريبتنا أو لتعودن في ملتنا" ، وكذلك قال كل أهل الباطل: "وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أول لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين"، وقال فرعون لموسى : " لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين" وهكذا تسير هذه القافلة المباركة لتتلقى نفس هذه الحيل الإرهابية من أهل الباطل لتخويفهم وردهم عن طريق دعوتهم والله من ورائهم محيط "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
البعثات الخارجية:
ومن حيل أهل الباطل أنهم إذا رأوا نشاطا من بعض الدعاة وأن من وراء عمله ثمرة ظاهرة وأثرا كبيرا أرسلوه للخارج لبعثة دراسية، أو لتمثيل بلده بمؤتمر، أو دورة، أو تمثيلاً دبلوماسيًا، أو لأي غرضٍ من الأغراض، ويتفقون هناك مع بعض من يقوم بإغرائه بشتى المغريات، أو أن الجو هناك يكون بذاته فتنة له، ويبعده عن الجادة التي تربَّى عليها، أو أنهم يرسلون له من يخلصهم منه هناك بحادث ضد مجهول، بعيدًا عن غضبة جمهوره في بلده.
تشويه السمعة وإلصاق التهم
وهذه الوسيلة هي أكثر الوسائل والحيل انتشارًا، خصوصا مع المشهورين من الدعاة والذين التف حولهم الناس، ويراد تفريق الناس عنهم.. فعندئذ تبدأ حملات الاستهزاء والتهكم والاتهام بالباطل من خلال الحملات الصحفية بمناسبة وبغير مناسبة، وافتعال قصص وهمية أشهرها القصص الغرامية والتهم الجنسية لأنها الأسرع في الانتشار بين الناس.. وهذا لا شك يشكل ضغطًا نفسيًا على بعض الدعاة، وربما يؤثر على سيرهم في الدعوة، وثباتهم على طريق الحق.
وقد ضرب لنا المنافقون قديما مثلا في اتهام أشرف الخلق في عرضه الذي هو أطهر عرض وأشرفه وأكرمه.. ومع علمهم بهذا لكنه الحقد على الدعوة وأصحابها وكمد صدورهم وغيظ قلوبهم من انتشارها.
وسار إخوانهم على الدرب وسلكوا نفس السبيل، فكم من داعية في زماننا حورب بهذه الحيلة الدنيئة فاتهموه في نفسه أو في أهل بيته زورا وبهتانا حتى أسقطوه من أعين الناس؛ فانزوى عنهم، أو حملوه على ترك البلاد فرارًا من قذارتهم ودناءتهم.
القتل أو الحبس
فإذا فشل جند إبليس في صد الداعية عن دينه ورده عن دعوته وعمله لنصرتها، أوعز إليهم إمامهم إبليس بآخر الحيل وهي الأذى في البدن أو النفس بالحبس أو التصفية الجسدية لإيقاف دعوته وإنهاء أثره كما خطط المجرمون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ليلة الهجرة بمباركة من الشيطان الرجيم الذي حضر الندوة في صورة شيخ نجدي.
وكانت الخيارات الحبس أو النفي أو القتل وهي الخيارات الموجودة في زماننا وفي كل زمان فيه حق وباطل.. ولكن يذهب دعاة وينبت آخرون ويختفي مجاهدون ويظهر آخرون، ويفوز شهداء وينتظر الدور آخرون ..
هذه بعض الحيل التي يستخدمها أهل الباطل لفتنة الدعاة، ولكنها جميعها تتكسر أمام الرجال الذين ربوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله، بعد أن قبلوا ببيع النفس والمال ابتغاءً لوجه الكريم وجنته، والابتعاد عن ناره، وعرفوا حقيقة الدنيا وزينتها، فلم تغرهم بعد أن زهدوا فيها، ورغبوا فيما عند الله، ولابد في النهاية أن ينتصر الدين فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.