يقول ابن إسحاق: حدثني الزهري أنه – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك".[البداية والنهاية 3/139، 140].
وهكذا يجب أن يدرك كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا، لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء.
والداخل في الدعوة، إنما يريد ابتداءً وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه. لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: "لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة".
يوسف يطلب الرئاسة:
وربما عللت النفس وشيطانها صاحبها بما فعل يوسف عليه السلام وإنما هذا من تسويل الشيطان، فالرئاسة لا تطلب إلا إذا تعذر وجود البديل أو الأكفأ، عندها يكون لزامًا عليه طلبها، لا لذاتها إنما كي لا يستلمها من هو دونه بالكفاءة فيضيع الأمانة، وهذا يوسف عليه السلام مثالاً لذلك، عندما رأى أنه لا يوجد من هو أكفأ منه، قال للملك: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف:55]. يقول سيد قطب – رحمه الله -: "إنه لم يسجد شكرًا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين كما يقول المتملقون! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوَّل بها رؤيا الملك، خيرًا مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحًا من الموت وبلادًا من الخراب، ومجتمعًا من الفتنة – فتنة الجوع".[في ظلال القرآن 4/2005].
فالذي يلتحق بركب الدعوة، عليه ألا يتوقع رئاسة، أو منصبًا ما، فضلا عن أن يسعى إليه ويفرح به، إنما يجب أن يوطن نفسه من أول يوم يضع فيه قدمه على باب الدعوة، بأن يكون جنديًا لها، فإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في المقدمة كان في المقدمة، ليس له هدف سوى مرضاة الله، إنما يحدث التعثر إذا التفت لغير الله، وحدثته نفسه بأمر من حظوظها. ولهذا السبب جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس للذين بايعوا بيعة العقبة الأولى والعقبة الثانية بقوله: "فإن وفيتم فلكم الجنة".[البخاري 1/54].
فلم يعدهم بمنصب ولا بجاه ولا بمال، أو بأي لون من ألوان الدنيا، إنما علقهم بالآخرة، لترتفع نفوسهم وآمالهم، وهممهم من وحل طين الدنيا، إلى السموات العلا.
ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة، الذين ليس لهم سوى رضى الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فليس مهمًا لديهم مواقع عملهم سواء كانت في المقدمة أو المؤخرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".[رواه البخاري في الفتح 2887].
يقول ابن الجوزي: "المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فإن اتفق له السير سار، فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها".[فتح الباري 6/83].
ويقول ابن حجر: "فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع".[فتح الباري 6/83].
هذا الصنف من الدعاة هو الذي تنجح الدعوة به، أما المتطلعون للرئاسة والمناصب والشهرة فإنهم من دون شك يكونون أحجار عثرة في طريق نجاح الحركة الإسلامية.