ما أشقى القيم عندما يصبح المال وحده لحمتها وسداها، وأتعس بالأمم إذا بات المال عندها معيار التفاضل ومنهاج التعامل! به ترفع وتضع، وفيه تقدم وتؤخر، وله تسعى وتحفد.
وكم تؤذي السمع، وتستدعي الازدراء قالة أقوام: (فلان رجل)، وإذا رحت تسائل هؤلاء الناس: فِيمَ استرجل فلان وجدّ؟ أجابوا - وبئس الجواب - بثروته المالية ومكانته الاقتصادية!
وحرصاً على إثراء رصيد المسلمين بالمعرفة التاريخية، وعمارة أرواحهم بأصل القيم،تعاقب القصص القرآني عن الأمم السالفة ليكون من الروافد الفكرية لمكونات الشخصية الإسلامية.
ولقد ثبت عن الإمام أحمد - رحمه الله- حبه لقصص موسى في القرآن الكريم، والتي توزعت فصولها هذه في كثير من آيات القرآن تحكي جهاد هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء - وكيف اصطدم بالطغيان السياسي الذي تمثله دولة فرعون ومواجهة لبذور وجذور الرأسمالية القارونية - التي كان قارون صنمها البارز ووثنها الشامخ.
وما ذكر في القرآن من قصة قارون مع قومه تتمثل في هذه الآيات من رقم 76 إلى رقم 82 من سورة القصص . قصة متكاملة العناصر؛ فزمن القصص - فترة رسالة موسى -صلى الله عليه وسلم-. والأماكن التي شهدت الدعوة مكانها. ووقائع القصة - وإن انتهت زمناً - فهي مستمرة حياة وإيحاءً، مادام النموذج الذي عرضت له القصة قائماً في عالم الناس . وقارون يقوم بدور البطولة بين شخصياتها المتمثلة بقومه عموماً، ثم يتحدد هذا العموم بفئتين:
الأولى: الدنيويون .
الثانية: أولو العلم .
وموضوع الصراع هو المال - مصدراً وهدفاً ومصرفاً - وتبدأ القصة معرّفة بقارون هذه الشخصية البائسة التي تعايش ربيع الزمن - وجود النبوة - ولكنها في شغل عنها بالمال جمعاً وكنزاً، ثم تفتح الآيات أعيننا على الأخطار التي تنتج عن رأسمالية فرد، فما تكون عليه هذه المخاطر إذا كانت هذه الرأسمالية نظام حياة وأسلوب حكم؟!:
وأولى هذه المخاطر الظلم: [فَبَغَى عَلَيْهِمْ] فالمُتيّم بالمال، والصبّ بجمعه لا يهتم إلا بما يزيد هذا المال رقماً دون مبالاة بظلم مؤلم أو بغي مؤذٍ. وفي ظل هذا الوضع تهان إنسانية الإنسان، ويكون التعامل معه كالتعامل مع الأشياء.
والخطر الثاني: الفرح: [إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ]، ويبدو أنه قد لازمه حتى صار خُلقاً له أو كما يقول أهل النحو ( صفة مشبِّهة أو صيغة مبالغة) فبلغ به حد الأثرة والبطر، كما يقول القرطبي أو بلغ الحد الذي يُنسي المنعم بالمال كما يقول صاحب "الظلال".
والخطر الثالث: التوجه الكلي إلى الدنيا وحدها، وهذا ما يستنبط بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] وكما لا يظن أن ذلك دعوة إلى مقاطعة الدنيا أتبع (والله أعلم) لقوله: [ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] وابتغاء وجه الله بالعمل محض الإيمان، فلا يذل المرء للمخلوقين أو يصبح تحت رحمة أهوائهم إذا اتخذ وجوههم قبلة تحقيقاً لتوحد حب الدنيا في قلبه .
وبعد إشباع شهوة التسلط القاروني بالبغي، وإتراعها بالفرح وما في ذلك من مكسب إعلامي يجعل من صاحبه حديث الصالونات ومحتكراً للصفحة الاجتماعية في الجرائد والمجلات - بعد ذلك تمضي بنا الآيات إلى الخطر الرابع وهو الفساد في الأرض: [وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ]، وكلمة الفساد ينطوي في أحشائها - وينضوي تحت راياتها - شرور شتى، وخبائث عدة ؛ لأن القارونية لا مكان في معجمها المادي للأخلاق، بل لا ترى بأساً أن يكون في مقتل الأخلاق دخل مدار الربح كما في عوائد الربا والفوائد كما في دخول الميسر والخمر والدخان ... إلخ.
والأخطار الأربعة السابقة نتيجة منطقية لرأسمالية قارون التي تدين بالحتمية المادية - وهذه نقطة تلاقٍ مع الشيوعية - التي تجحد قدرة الله في الإعطاء والمنع، والفقر والغنى، وترد ذلك إلى سلطان العقل وثمرة العمل، وتبجح قارون: [إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] يمثل الأبوة الروحية لكل منزع مادي، فهو كما قال أحد المفسرين: "تَنَفَّجَ بالعلم وتعظم به".
ومادام قارون يعتقد ألا فضل لله في إيجاد هذا المال فليس له - بالتالي - حكم في مصاريفه وإنفاقه. ولكن الآيات ردت على المادية القارونية بأن المادية التاريخية لم تعصم أهلها - بالرغم مما في يدها من علم ومال -: [أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعاً] وما على القوارين إلا التأمل في مصائر الثراء وفعائل المال بأصحابه؛ (إذ لو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم) كما يقول القرطبي.
وكأن هذه القارونية قد أخذت على نفسها الميثاق ألا تُبقي عيباً من عيوب الثراء الذي لم يؤسس على تقوى إلا وكشفته، هاهي الآيات تعرض لنا المنظر الأخير للإفلاس القيمي عند قارون الذي لم يجد ما يدلل به على حضوره ثرياً إلا خروجه في زينته (كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد) التي لم يكن الحاضر فيها منه إلا مظاهرها المادية بعد أن فارقنا إنسانيته أو فارقتنا في سعير المظالم وسعار الشهوات وسكرة الفرح.
ولقد نقلت الآيات قارون من الجريمة الفردية إلى الجريمة الاجتماعية أو بلغة الأدب - من الشخص إلى المصطلح ومن الحدث إلى الرمز لتصبح القارونية عباءة لكل قارون معاصر أو ثري جَحود.
لم يكد قارون يفرغ من عرض ثروته، واستعراض زينته إلا وقد أشعل في قلوب الدنيويين مشاعر التلهف وشعائر التأسف ألا يكون لهم مثل هذه الثروة : [يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ]؛ فجاءت إغاثة اللهفان - شأنها في كل زمان ومكان - من أهل العلم الذين حذروا من خطورة النظرة السطحية للأمور، والتي تريد الدنيا للدنيا، ثم لفت أهل العلم الأنظار إلى [ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ]، فذلكما الأمران هما المطلوبان والمحبوبان ثواب الله والإيمان به . وفي ذلك تنبيه للدنيويين على مدار التاريخ - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - أن الثروة قد تدلف فجأة، ولكن ترويض النفس على الإيمان والعمل الصالح منزلة [وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ].
وما أن يُنهي أهل العلم كلامهم ؛ حتى تغيّب الأرض قارون في ظلماتها - والعطف بالفاء - ] فَخَسَفْنَا [ يدل على سرعة الأخذ، والعقوبة بالخسف مناسبة لسخف المعتقد . وهكذا أصبح هذا الثراء بالرشاء أجدر.
وفاجعة النهاية لا تقل في غناها المعنوي عن مأساة البداية، فهذه الثروة الهائلة تغور في أعماق البسيطة بثوانٍ كأن لم تكن: [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 29].
وإذا جاء أمر فإنه يترك كل القوى اللائذة بأهل المال رغبة أو رهبة - عاجزة عن أي دور: ]فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ومَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ[ وبقدر ما كان الانتقام فاجعاً لقارون كان مفاجئاً للدنيويين فقد انتزعتهم النهاية من زيف أحلامهم وسكرة مشاعرهم لتوقفهم على الأخذ الأليم؛ فيصرخون [وَيْ] لتبصر البصائر ما عجزت عنه النواظر، ويدركون ألا علاقة بين الهداية والثراء؛ فالله: [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ويَقْدِرُ]. كما يعترفون بفضل الله عليهم لتدارك رحمته - إياهم - بنصح أولي العلم:]لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [، كما يخرجون بتجربة ناجحة عن مستقبل الثراء الكافر: [وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ]، والتعبير بالمضارع [لا يُفْلِحُ] يفيد ديمومة الحكم ما وُجدت أطراف القضية.
وإذا كان الفوز في الآخرة هو الفوز، فالطريق إليه يبدأ في الدنيا بتجنُّب التجبُّر: [لا يُرِيدُونَ عُلُواً]، ومجانبة الفساد بكل مضامينه: [وَلا فَسَاداً]، ولئن قُدر للمبطلين أن يهيمنوا بعض الوقت فلن يتأتى لهم ذلك دائماً أو انتهاءً؛ لأن [الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ][القصص:83].