تعني فجوة العقل الإعلامي وجود رؤى نظرية عدة ومستويات أدائية تتباين أسبابها وتتفاوت تجلياتها وتداعياتها لدى كل من المنظرين وعلماء الاتصال والممارسين الإعلاميين وجمهور المتلقين. وعلى الصعيد النظري تحفل الساحة الغربية (الأوروبية والأميركية) بالكثير من التيارات والرؤى النظرية في بحوث الإعلام والاتصال. فهناك الرؤية الوظيفية البراغماتية التي سادت في الولايات المتحدة خلال أربعة عقود وما تزال مسيطرة على معظم الباحثين ودارسي الإعلام في دول الجنوب, خصوصاً العالم العربي, وتعتمد على منظور معزول عن سياقاته الاجتماعية والثقافية, وترى أن الإعلام هو أداة التحديث في المجتمعات النامية.
أزمة نقل وتبعية
وتتعرض بحوث الاتصال في دول الجنوب ـ وفي قلبها العالم العربي ـ لأزمة مركبة تتمثل في النقل والاقتباس والتبعية للتيارات الأميركية والوظيفية في دول الشمال المتقدم تكنولوجياً استناداً إلى رؤية خاطئة فحواها "أن العلم لا وطن له". وهذه الرؤية قد تنطبق ـ جزئياً ـ على العلوم الطبيعية، ولكنها بالقطع لا تنطبق على العلم الاجتماعي الذي يتأثر بالخصوصية الثقافية لكل مجتمع، فضلاً عن اختلاف معدلات التطور الاجتماعي والاقتصادي والبيئي, علاوة على الأحداث التي حكمت السيطرة التاريخية لكل مجتمع وحددت خلفياته الثقافية ومنظومة القيم والأنماط السلوكية لشعوبه وجماعاته. وهذا الوضع يطرح تحدياً أساسياً لمعظم المسلّمات النظرية التي تنطلق منها البحوث الإعلامية العربية ذات الطابع التجزيئي والتفتيتي للظواهر الإعلامية والتي اعتاد معظم الباحثين الإعلاميين العرب على تناولها بمعزل عن السياق المجتمعي الذي أنتجها وأثر فيها كما تأثر بها, فضلاً عن إهمال التوجهات الأيديولوجية للباحثين.
وهنا تثار قضية المسؤولية العلمية والأخلاقية للباحثين الإعلاميين العرب لتجاوز هذه الفجوة من خلال التصدي لتناول التراث العالمي في بحوث الاتصال بمنظور نقدي, فضلاً عن ضرورة إعادة النظر في رصد مفردات أو إشكاليات بيئتنا الاتصالية والثقافية والتمييز بين إيجابيات التراث الغربي وسلبيات تعميمه, خصوصاً في مجال العلوم الاجتماعية وعلى الأخص حقل الاتصال والصحافة. ويستلزم ذلك إجراء مراجعة نقدية للتراث العلمي في بحوث الاتصال التي أجريت في الإطار العربي ومحاولة استكشاف أسباب تكرار مواضيع معينة وتجاهل مواضيع أخرى أكثر أهمية وأعمق التصاقاً بواقع الإعلام العربي. وذلك سعياً لاكتشاف الأسئلة الجوهرية التي يطرحها هذا الواقع وصولاً إلى الأطر النظرية الملائمة والقادرة على تفسير الكثير من الظواهر الإعلامية التي يزخر بها العالم العربي, ومن ثم طرح الإجابات الصحيحة مع عدم إغفال الاهتمام بدراسة تاريخ الإعلام العربي. وهذا هو السبيل الوحيد الذي يتيح لنا إمكان التوصل إلى بناء نسق نظري عام يفسر الواقع الإعلامي العربي المعاصر في إطار استمراريته التاريخية.
أسباب الفجوة
وتتجلى فجوة العقل الإعلامي على الصعيد الأدائي في مجالي السياسات والممارسات الإعلامية عالمياً ومحلياً, وتعزى أساساً إلى أسباب عدة أبرزها عدم التوازن في انسياب المعلومات من الشمال إلى الجنوب، ورسوخ الاتجاه الرأسي الأحادي الجانب للإعلام من أعلى إلى أسفل من المراكز الدولية في الشمال المهيمنة على التكنولوجيا المتقدمة والمعرفة والتراث الإعلامي إلى الأطراف الأفقر في الجنوب ومن الحكومات إلى الأفراد والشعوب، ومن الثقافة الغربية المسيطرة إلى الثقافات التابعة.
ففي ظل الثورة العلمية والتكنولوجية، وفي إطار المحاولات المستمرة التي تقودها القوى المتحكمة في السوق العالمية من أجل عولمة الثقافة والتعليم والدين وسائر مكونات المنظومة الحضارية التي كانت تحتفظ باستقلال نسبي خارج دوائر السوق العالمية وقيمها، وفي ظل الهيمنة السياسية والاقتصادية للمؤسسات المالية الدولية والشركات المتعددة الجنسية والدول الثماني الكبار بزعامة الولايات المتحدة, وفي ظل الصراع الثقافي والتحديات الحضارية, تبرز فجوة العقل الإعلامي.
لم تعد تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تشغل موقعاً مركزياً فحسب في شبكة الإنتاج, بل أصبحت تشغل موقع القلب في استراتيجية إعادة تشكيل منظومة العلاقات الدولية؛ على المستوى السياسي بالترويج لما يسمى بـ"الشرعية الدولية", وعلى المستوى الثقافي بإعلاء شأن الثقافة الغربية, خصوصاً الطبعة الأميركية منها وتهميش ثقافات الجنوب. وعلى المستوى الاتصالي بالترويج لما يسمى بـ"القرية الاتصالية العالمية" متساهلاً ـ عن عمد ـ حيال التفاوت الحاد بين معدلات التطور الإعلامي والاتصالي بين أجزاء العالم شمالاً وجنوباً، سواء تمثل ذلك في تكنولوجيا الاتصال أم في الإشباع الإعلامي.
على الصعيد العربي
أما على الصعيد العربي فتتمحور أسباب فجوة العقل الإعلامي إجمالاً حول السيطرة التي تمارسها الحكومات العربية في مجال تنظيم أو توجيه أنشطة الاتصال والإعلام، سواء في المجالات الاقتصادية (ملكية وسائل الإعلام - توفير موارد الاتصال) أم في المجالات التشريعية (قوانين المطبوعات والتشريعات الإعلامية)، فضلاً عن تحكمها في المضامين والممارسات الإعلامية في إطار السياسات الإعلامية والاتصالية المعلنة والمستترة ومعاداتها للتعددية الفكرية والسياسية وابتكارها مصادر المعلومات وإصرارها على مصادرة الآراء المخالفة من خلال أجهزة الرقابة المتباينة الأشكال.
وهناك, إلى جانب الضغوط والقيود التي تبالغ الحكومات العربية في استخدامها لتحجيم الأدوار التي يقوم بها الإعلاميون العرب, تبرز الضغوط المهنية والإدارية داخل المؤسسات الإعلامية والصحافية والتي تؤثر بصورة سلبية في بيئة العمل الإعلامي ككل, سواء من ناحية مدى مشاركة الإعلاميين في صنع القرارات ووضع السياسات الإعلامية أو مستوى الأداء المهني وعلاقات العمل (علاقة الإعلاميين بالمصادر وبالجمهور وبالزملاء والرؤساء).
وتشير الدراسات إلى غياب المعايير الموضوعية لقياس الأداء المهني للإعلاميين والصحافيين في معظم المؤسسات الإعلامية والصحافية في العالم العربي فضلاً عن عدم توافر ضمانات ممارسة المهنة من خلال تفعيل التشريعات التي تحقق الحماية المهنية للإعلاميين الصحافيين.
ومن أبرز صور الفجوة الأدائية عجز الإعلاميين العرب عن مواكبة عصر المعلومات في ممارساتهم الصحافية والإعلامية والتي تتمثل في غلبة الطابع الدعائي الإقناعي التقليدي على أسلوب الخطاب الإعلامي الذي لا يزال يدور في فلك الحكام وتأكيد روح الانبهار بالثقافة الوافدة وإغفال الحاجات الاتصالية لجمهور المتلقين الذين تتعامل معهم وسائل الإعلام العربية باعتبارهم مستهلكين وليسوا مشاركين استناداً إلى الرؤية التقليدية للإعلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذة الصحافة بجامعة القاهرة. والمقال نقلاً عن الحياة.