مقام الصحابة رضي الله عنهم مقام جليل عند الله تعالى، فقد اختارهم من بين العالمين لصحبة أفضل المرسلين وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وأقام الله تعالى على أيديهم الدين الحنيف في ربوع الأرض؛ فلهم من المنزلة عند الله تعالى ما ليس لغيرهم – خلال النبيين والمرسلين عليهم السلام – فرضي الله عنهم ورضوا عنه؛ كما قال الله سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:100]. ولهم من المنزلة عند الموحدين من المسلمين ما ليس لغيرهم؛ فهم يعرفون لهم فضلهم ومكانتهم التي بؤَّأهم الله تعالى إياها، فيحبونهم ويوالونهم، ويبغضون من أبغضهم، ويعادون من عاداهم. ومحبة المؤمنين للصحابة رضي الله عنهم هي جزء من محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن بغض أهل الضلال من الكفار والمنافقين والمبتدعة للصحابة رضي الله عنهم هو جزء من بغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم – قصدوا ذلك أم لم يقصدوه، وعلموه أم جهلوه - . قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اعتبروا الناس بأخدانهم". وقال الإمام مالك رحمه الله: "إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك؛ فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ؛ ولو كان رجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين". وبغض الصحابة رضي الله عنهم وانتقاصهم هو في واقع الأمر بغض للدين وانتقاص له من وجهين: الوجه الأول: أنهم على دين النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم أصحابه وأخلاؤه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". فدينهم هو دين النبي صلى الله عليه وسلم، وانتقاصهم هو انتقاص لدينهم. الوجه الثاني: أنهم حَمَلَةُ الدين وناقلوه إلينا. قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح أوْلى بهم وهم زنادقة". ومن أعظم ما يزهِّد الناس في شريعة الله تعالى القدح في نَقَلَتها، وقد رأينا كيف أن أعداء الإسلام من مستشرقين حاقدين، ومنافقين مندسين لا يجترئون على القدح المباشر في الشريعة؛ لئلا يثيروا الناس، ولكيلا ينفِّروا من أقوالهم وطروحاتهم المتزندقة، يعمدون إلى غمز الصحابة رضي الله عنهم، ولمزهم، وإبراز الروايات المنكرة والموضوعة، واختزال التاريخ الإسلامي كله فيها، ومن ثم تقديمها للناس على أنها خلاصة تاريخ المسلمين، وواقع السابقين من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين، والقادة المجاهدين، على شكل قصص أو روايات ، أو دراسات تاريخية، أو ما أشبه ذلك. وكثيرًا ما تُقَدَّم هذه الكتابات الطاعنة في الصحابة رضي الله عنهم في قالب يزعم أصحابه الحيادية والموضوعية التاريخية، ويدَّعون أنهم ينطلقون في كتاباتهم عن الصحابة رضي الله عنهم من فراغ عن أي خلفيات فكرية مترسبة قد تؤثر بالحكم سلبًا أو إيجابًا على الروايات المنقولة عنهم. والمقصود من هذه المقدمات التي يقدمونها في كتاباتهم الطاعنة في خير البشر بعد النبيين إكساب القارئ الطمأنينة فيما يكتبون، وجعل أنفسهم محل ثقته وقبوله. ولا خير فيمن يكتب عن رجالات الأمة الفضلاء وهو يعلن عدم انحيازه لهذه الأمة؛ بل اتخذ بديلاً عنهم أعداء الإسلام من المستشرقين والمبتدعة، فانحاز إليهم بفكره وقلمه، ثم إذا هو يزعم الموضوعية والحياد فيما يكتب، وكاد المريب أن يقول: خذوني!! وخلال سنوات مضت وقفت على كتابات عدة من مقالات ودراسات وقصص تبرز مسألة عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد رضي الله عنهما، عن قيادة الجيوش، وتُسلِّط الأضواء على روايات ونقول لا تليق بمقام الصحابة الجليل، وتتغافل عن المتواتر من المنقول الذي يُظهر حقيقة ما كانوا عليه من الإيمان والتقوى والورع والتجرد في أقوالهم وأفعالهم، رضي الله عنهم وأرضاهم. وراح كثير منهم ينسج جملة من الأوهام والترهات المستندة إلى روايات منكرة باطلة، ويزيدون عليها ألف كذبة من ترهات عقولهم المريضة، وأحقادهم الدفينة، شأنهم شأن الكهان، ثم سمعت عمن يتناقل شيئًا من ذلك عبر الفضائيات في حوارات وندوات. وليس الأمر كما ذكر المفتونون في دينهم، المخذولون بالقَدْح في الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ إن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهادًا رأي فيه الفاروق مصلحة المسلمين، وكان هذا الاجتهاد من عمر رضي الله عنه، نتيجة لأعمال عملها خالد رضي الله عنه، كان مجتهدًا فيها أيضًا، أصاب في بعضها وأخطأ في بعضها، وكلاهما رضي الله عنهما بين أجر وأجرين. أسباب عزل عمر لخالد رضي الله عنهما: اختلف أهل السير والمغازي في السبب الذي جعل عمر يعزل خالدًا عن قيادة الجيوش، وحاصل ما ذكروا أسباب ثلاثة: السبب الأول: أن عزله كان بسبب شدته ، وكان عمر رضي الله عنه شديدًا فما أراد أن يكون الخليفة شديدًا وقائد الجيوش كذلك. وكان أبو بكر رضي الله عنه لينًا فناسب أن يكون قائد جنده شديدًا، فلما ولي عمر عزل خالدًا وولَّى أبا عبيدة، وكان أبو عبيدة لينًا، فناسب مع أبي بكر ولينه خالد وشدته، وناسب مع عمر وشدته أبو عبيدة ولينه رضي الله عنهم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالدًا وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالدًا ؛ فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: "وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدًا في حرب أهل الردة، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها بل عاتبه عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير – أي الخليفة – إذا كان خُلُقه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛ ليعتدل الأمر؛ ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يُؤثر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ لأن خالدًا كان شديدًا كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان لينًا كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يتولى من ولاه ليكون أمره معتدلاً". ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر رضي الله عنه لما كان يسعى إلى عزل خالد أيام أبي بكر رضي الله عنه كان يقول: "اعزله؛ فإن في سيفه رهقًا، فقال أبو بكر: لا أشيم – أي لا أغمد – سيفًا سلَّه الله على الكفار". قال ابن كثير رحمه الله: "والمقصود أنه لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرِّض الصديق ويذمِّره على عزل خالد عن الإمرة، ويقول: إن في سيفه لرهقًا، حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة، وقد لبس درعه التي من حديد، وقد صدئ من كثرة الدماء..."إلخ. ويشهد لشدة خالد أيضًا قتله للأسرى لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة؛ فقتل الأسرى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فَوَدَاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". قال الخطابي رحمه الله: الحكمة في تبرُّئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد – مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدًا – أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك، خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله"اهـ. ملخصًا. وقال ابن بطال رحمه الله: "الإثم وإن كان ساقطًا عن المجتهد في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند الأكثر ؛ مع الاختلاف: هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال ؟ ". قال الحافظ ابن حجر متعقبًا قول ابن بطال رحمهما الله تعالى: "والذي يظهر أن التبرؤ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود". وكذلك قتله رضي الله عنه لمالك بن نويرة اليربوعي، وملخص خبره: أن مالكًا صانع سَجَاحًا التميمية التي ادعت النبوة، ثم ندم مالك على ما كان منه، وقصد خالد البطاح وعليها مالك، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان من مالك بن نويرة فإنه متحير في أمره، متنحٍّ عن الناس فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت فيهم السرية؛ فشهد أبو قتادة – الحارث بن ربعي الأنصاري – أنهم أقاموا الصلاة. وقال آخرون: إنهم لم يؤذِّنوا ولا صلوا، فيقال: إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة باردة شديدة البرد، فنادى منادي خالد أن دفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم.. فلما بلغ ذلك خالدًا قال: إذا أراد الله أمرًا أصابه. يتبع
- الكاتب:
بقلم: إبراهيم بن محمد الحقيل - التصنيف:
من ذاكرة التاريخ