مرت البوسنة والهرسك في تاريخها بعدة مراحل عرفت فيها مدا وجزرا في ما يتعلق بالثقافة الإسلامية، وتحديدا المدارس التي حافظت على زخمها لعدة سنوات بعد انحسار ظل الخلافة العثمانية عن منطقة البلقان وبالأخص البوسنة والهرسك، ففي سنة 1327 هجرية 1909م، بلغ عدد المدارس 42 مدرسة وعدد طلابها 1613 طالبا. وكان بإمكان الطلاب مواصلة تعليمهم في دار المعلمين التي أسست سنة 1311 هجرية 1893م، أو في كلية الشريعة التي أسست سنة 1303 هجرية 1885م، والتي تؤهل خريجيها ليصبحوا قضاة شرعيين في ذلك الوقت. لكن قيام المملكة الصربية الكرواتية السلوفينية على أنقاض الاحتلال النمساوي للبوسنة غير كثيرا من الأوضاع وتلك قصة طويلة. الملفت للنظر ان الطلبة هناك يدرسون مادة التفسير من خلال تناول بداية نزول الوحي، وتدرج نزول الوحي، وكتابة القرآن وجمعه في المصحف، ونشأة علوم القرآن، وتقسيم السور وآياتها إلى مكية ومدنية، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وفواتح السور، ورسم المصاحف. وفي السنة الثالثة يتناول الطلبة الحلال والحرام، ويتعلمون أن التحليل والتحريم من اختصاص الله سبحانه وتعالى وحده، كما هي مسألة الحسن والقبيح، حيث الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع كذلك، وحقوق المرأة في القرآن، وتعدد الزوجات وشروطه، ونساء النبي، والذبح والصيد الشرعي، ومصادر الرزق الحلال في القرآن، وهدف الحياة في القرآن. وفي السنة الرابعة يتلقى الطلبة محاضرات عن السنة ودورها في الشريعة الإسلامية، والناسخ والمنسوخ والقبلة ومركزها الدائم، والحرب والسلم في القرآن. وقال محرم عمرديتش مسؤول المدارس الإسلامية التابعة للمشيخة الإسلامية لـ«الشرق الأوسط»: «في العهد الشيوعي لم يكن في البوسنة سوى 10 من حفظة القرآن فقط، أما اليوم فيوجد لدينا 160 حافظا، وسيكون العدد أكبر في المستقبل. اليوم يوجد لدينا 8 مدارس إسلامية ثانوية، منها 6 مدارس في البوسنة، ومدرسة سابعة في كرواتيا، وثامنة في السنجق، وبهذه المدارس 1600 طالب يتلقون إلى جانب التعليم الإسلامي، منهجا مميزا في المجالات الأخرى. وتمتلك المدارس الإسلامية منهجا قويا يخرج طلبة مميزين، ولذلك لا يمكن إلا للطلبة المتفوقين التسجيل فيها». وعما إذا كان يسمح لخريجي المدارس الإسلامية بالالتحاق بمختلف الكليات الأخرى قال عمرديتش: « ليس بإمكان طلبتنا الالتحاق بكافة الكليات الأخرى فحسب، بل أنهم أفضل الطلبة الجامعيين، حيث يحصلون على أرقى الدراجات ولا سيما في كلية الطب، وذلك لمستوى المنهج الذي درسوه في المدارس الإسلامية. طلبتنا يدرسون اليوم في أكثر من 20 جامعة في البوسنة وحول العالم وجميع نتائجهم تؤكد أنهم الأفضل، وهذا يعود للمنهج ولمستوى التربية التي تلقوها في المدارس الإسلامية، وحصل طلبتنا على جوائز تقديرية في بعض الجامعات التي يدرس بها طلبة متخرجون من المدارس الإسلامية». وعن الجامعات التي يوجد بها طلبة متخرجون من المدارس الإسلامية قال: «لدينا طلبة في المملكة العربية السعودية، وفي الكويت والأردن وتركيا ومصر والولايات المتحدة وليبيا وماليزيا وتونس والمغرب وسورية ولبنان وباكستان والدول الأوروبية، ففي المدرسة لدينا خمس لغات للتدريس هي البوسنية والعربية والتركية واللاتينية والانجليزية، إضافة إلى مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء و البيولوجيا والتاريخ، وبالطبع الفقه والعقيدة وعلوم القرآن والحديث والتفسير والتاريخ الإسلامي وغير ذلك». وعن التباين الحاصل في عدد المدارس والأساتذة بين الفترة العثمانية ومرحلة ما بعد الاستقلال مرورا بالفترات الاستعمارية في العهد النمساوي واليوغوسلافي، حيث كان في العهد العثماني 42 مدرسة و50 مدرسا فقط، قال: «صحيح أن عدد المدارس في العهد العثماني كان كبيرا، حيث كان في كل مدينة مدرسة تقريبا، وفي سراييفو كانت هناك مدرسة تسمى دار الحديث، حيث لم يكن هناك منهج واحد للتدريس، فكانت كل مدرسة تختار برنامجها حسب تخصصها، فكانت مدارس للحديث «دار الحديث»، ومدارس للقرآن «دار القرآن»، وكانت هناك مدارس لتخريج القضاة الشرعيين، وفي عهد الاحتلال النمساوي تم تقليص عدد المدارس الإسلامية ، ثم جاء الاحتلال الصربي وأغلق العدد الأكثر كما تعلمون، ثم جاء الشيوعيون وأغلقوا جميع المدارس ما عدا واحدة هي مدرسة الغازي خسرو بك بسراييفو، وبعد الاستقلال وفي الفترة 1992 ـ 1995 تم فتح 6 مدارس في البوسنة ولم يعد مسموحا بأن يتولى أحد الإمامة إلا بعد التخرج من الكلية الإسلامية أو الجامعة. وأذكر أن منصرا نمساويا كلفه بابا الفاتيكان بتنصير مسلمي البوسنة، وقد عمل لمدة 10 سنوات لهذا الغرض، وأخيرا كتب للبابا يقول «لا أستطيع أداء المهمة لأن المدارس الإسلامية تقوم بتحصين المسلمين، وفي أي مكان توجد فيه مدرسة إسلامية لم يكن بإمكاني فعل شيء»، و لذلك فالمدارس الإسلامية بالفعل حارسة للإسلام والثقافة الإسلامية». وعن دور علي عزت بيجوفيتش في الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم في البوسنة، قال عمرديتش: «علي عزت كان مسلما حقيقيا جسد معاني العزة الإسلامية والتضحية في أحسن صورها، وقد تسلح بالعلم الذي مكنه من أداء رسالته، والتقوى التي صقلت مزاياه المختلفة، وفي الوقت الذي كان البعض يرفع شعار «لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم»، وهو شعار فرضته الديكتاتورية الشيوعية، كان علي عزت يرفع صوته مسفها كل النظريات التي ادعت لنفسها العلمية ردحا من الزمن وقد سجن في سبيل أفكاره ولم يستسلم، وقد نجح في أداء رسالته وكل ما ينعم به المسلمون اليوم في البوسنة هو بفضل الله أولا، ثم علي عزت بيجوفيتش، ونحن مدينون لعلي عزت بما نحن فيه من حرية مكنتنا من ترسيخ الثقافة الإسلامية، ونحن اليوم نتذكر علي عزت بيجوفيتش، فهو شخص لن ينسى ولا يمكن أن ننساه أبدا على مدى التاريخ، وسنعمل على تكريس ما عمل من أجله وما دعا له، وهو أمر أكسبه رضا وقبولا واحتراما في داخل البوسنة وخارجها، من المسلمين وغير المسلمين أيضا.
كليات الدراسات الإسلامية في البوسنة لا يمكن أن يسجل فيها إلا من تخرج من إحدى المدارس الإسلامية المنتشرة بالبوسنة، أما الأكاديميات فهي مفتوحة لكل حاملي شهادة البكالوريا أو الثانوية العامة من المدارس المختلفة.
وفي السنة الثانية يدرس الطلبة تفسير ابن كثير، الذي يمثل تفاسير السلف، وتفسير محمد محمود حجازي، الذي يمثل تفاسير المعاصرين.
وعن أهمية المدارس الإسلامية قال: «المدارس الإسلامية تستمد أهميتها من أمرين: منهجها الإسلامي، والحضور المكثف للعلوم الأخرى فيها، من جهة، ومن جهة أخرى حمايتها للطلبة، فالمدارس الإسلامية أكثر أمانا للشباب، فطلبتها لا يتعاطون الدخان والخمور والمخدرات والموبقات الأخرى، ولذلك يحرص عدد كبير من جنرالات الجيش والشرطة والسياسيين على إدخال أبنائهم للمدارس الإسلامية، بينما في المدارس الأخرى يمكن للطلبة أن يفعلوا ما يريدون وما لا يريدون بسبب عدم وجود الموجه الصادق لما فيه خيرهم في دنياهم وآخرتهم. وفي المدارس الإسلامية ينشأ الطالب على أسس إسلامية ومعرفة الحلال والحرام والجيد والسيئ والجميل والقبيح، إضافة للتعليم الجيد والمستوى الراقي». وأضاف: «المدارس الإسلامية هي راعية الثقافة الأسلامية في البوسنة ومنطقة البلقان.