ذكرنا في مقال سابق، أن التناسب بين السور والآيات قد قال به كثير من أهل العلم، وأيدوا ما قالوه بالدليل والبرهان، وألمحنا إلى أن طلب المناسبات القرآنية وتتبعها أمر مشروع ، مع التحذير من تكلف ذلك.
ونردف هذا التذكير، بما قاله الإمام السيوطي في هذا السياق، إذ قرر قاعدة مفادها: إن كل سورة من سور القرآن تفصيل لإجمال السورة التي قبلها، وشرح لها، وهذا في غالب سور القرآن، كما دل على ذلك الاستقراء.
وفيما يلي من سطور، نحاول أن نرصد وجوه المناسبات في سورة البقرة، وفق ما ذكره أهل هذا الاختصاص، فنقول:
قد ذكر العلماء أن وجه تسمية هذه السورة (سورة البقرة) أنها ذُكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية، وهي مما انفردت بذكره هذه السورة.
وجاء في بعض الآثاء: (إنها سنام القرآن) وسنام كل شيء: أعلاه، وهذا ليس عَلَمًا لها، ولكنه وصف تشريف؛ وعن بعض السلف (أنها فسطاط القرآن) والفسطاط: ما يحيط بالمكان؛ سُميت بذلك لإحاطتها بأحكام كثيرة.
ثم إن العلماء ذكروا عدة وجوه من أوجه المناسبات بين سورة البقرة وغيرها من سور القرآن، نجملها فيما يأتي:
الوجه الأول: أن ما جاء في سورة البقرة من آيات إنما هو تفصيل وشرح لما جاء في سورة الفاتحة؛ فقوله تعالى: {الحمد لله} تفصيله ما وقع في سورة البقرة من الأمر بالذكر، والدعاء، والشكر؛ وقوله سبحانه: {رب العالمين} شرحه في ذكر قصة خلق آدم عليه السلام، إذ هو مبدأ البشر...وهكذا باقي آيات سورة الفاتحة، نراها قد فُصِّلت، وبُيِّنت على أتم وجه في سورة البقرة، والمقام لا يسعف بتفصيل ذلك.
الوجه الثاني: أن {المغضوب عليهم} الوارد ذكرهم في سورة الفاتحة، هم اليهود ومن كان على شاكلتهم، كما دلَّت على ذلك الأحاديث، وعليه أكثر المفسرين. وقد ذُكر أهل الكتاب في سورة الفاتحة حسب ترتيبهم الزماني، فجاء ذكر اليهود أولاً، وسمَّاهم القرآن: {المغضوب عليهم} ثم جاء ذكر النصارى، وسماهم: {الضالين} ثم في سورة البقرة جاء تفصيل القول في اليهود على وجه خاص ومفصَّل، أما النصارى فجاء ذكرهم في سورة البقرة على وجه العموم والإجمال، وجاء ذكرهم في سورة آل عمران على وجه التفصيل.
الوجه الثالث: أنه لما كانت سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال، ناسب تقديمها على جميع سور القرآن.
الوجه الرابع: أنها أطول سور القرآن الكريم، وقد افتتح القرآن بالسبع الطوال، وكانت هي أطول هذه السبع، فناسب الابتداء بها.
الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة المنورة، فناسب الابتداء بها، فإن في الأوَّلية نوع من الأولوية.
الوجه السادس: أن سورة الفاتحة لما خُتمت بالدعاء من المؤمنين إجمالاً، بطلب هداية الطريق المستقيم، وتجنُّب طريق أهل الغضب والضلال، وهم اليهود والنصارى؛ خُتمت سورة البقرة بالدعاء تفصيلاً، بألا يُؤخذ الله المؤمنين بما وقع منهم من خطأ أو نسيان، وأن يرفع عنهم المشاق، وما لا طاقة لهم به، ممن كان في الأمم الذين سبقتهم.
كما تضمن آخر سورة البقرة إشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين، وذلك في قوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة:285).
وهكذا يظهر لنا العديد من أوجه المناسبات بين سورة البقرة والفاتحة خصوصًا، وباقي سور القرآن عمومًا؛ على أنَّ ما ذكرناه هنا مجرد تنبيه وإشارة إلى غيره مما ذكره المفسرون، وخاصة من كانت له عناية بتتبع أوجه المناسبات القرآنية، فمن شاء التوسع في ذلك، فليرجع إلى ما كتبه البقاعي في كتابه: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) وما كتبه الإمام السيوطي في كتابه: (تناسق الدرر في تناسب السور) وكذلك ما كتبه الشيخ ابن عاشور في كتابه: (التحرير والتنوير) وغير ذلك من كتب التفسير.
- التصنيف:
التناسب بين السور