حينما فتح فتى الترك الشاب محمد الفاتح القسطنطينية؛ استجابة لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحقيقًا لأملٍ حاول المسلمون تحقيقه، منذ دفن الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري تحت أسوارها، عندما فتحها محمد الفاتح غيَّر اسمها إلى (إسلام بول) أي انتشار الإسلام، واتخذها عاصمةً بعد (أدرنة) تفاؤلاً وأملاً أن ينساح منها الإسلام إلى كل أرجاء الدنيا. وتحول اسمها إلى (استانبول) على الألسنة، وصارت تعرف به إلى الآن.
وازدهرت (استانبول) وصارت مدينة العلوم، والفنون، والآداب، والحضارة، والرقي، ومن قبل كل هذا ومن بعده، صارت مدينة الحرية، والتسامح.
يحكي لنا توماس أرنولد عن مارتن كروسيوس Martin Crusius شهادته على واقع الحياة في استانبول، فيقول:
"ومن الغريب أننا لم نسمع مطلقًا أن شيئًا من الجرائم، أو المظالم قد وقع بين البرابرة (يقصد الأتراك) وبين البقية الباقية في هذه المدينة الكبرى (يعني البقية التي بقيت على دينها المسيحي)، فالعدالة ممنوحة لكل فرد، لذلك وصف السلطان القسطنطينية (انظر إصراره على الاسم القديم) بأنها ملجأ العالم كله (تأمل جيدًا)؛ لأن جميع التاعسين يختبئون هناك في أمان، ولأن العدالة توزع على الناس جميعًا، على أقلهم شأنًا وأعظمها نفوذًا، على المسيحيين والكفار (يعني المسلمين) سواء بسواء"اهـ.
انظر وتأمل: السلطان يصف عاصمته بأنها ملجأ العالم، فهو على وعي بما يعمل، وعلى اطلاع بأحوال الدنيا من حوله، فهو يباهي بأن عاصمته ملجأ العالم.
وانظر وتأمل المؤرخ المسيحي الغربي المتعصب ضد الأتراك وضد الإسلام، هذا المؤرخ الذي بلغ من تعصبه أنه يسمي الأتراك (البرابرة) ويسمي المسلمين (الكفار) ولا يريد أن ينطق أو يكتب اسم المدينة الجديدة (استانبول)؛ فيصر على أنها (القسطنطينية)؛ هذا المؤرخ مع كل هذا التعصب يعترف ويقر بالآتي:
- أنه لم يُسمع شيء مطلقا عن الجرائم أو المظالم بين (البرابرة!!) والمسيحيين.
- أن العدالة لكل فرد.
- أن العدالة توزع على الناس جميعًا، لا تتأثر بمكانة ومنزلة ونفوذ الأشخاص.
- أن جميع التاعسين يختبئون هناك في أمان. ولست أدري ماذا يريد بالتاعسين، ولكن الذي يتبادر إلى الذهن، ويفهم من كلمة (يختبئون) أنه يريد بهم المطاردين المضطهدين المظلومين.
تأمل فيما قرأت واستحضر ما يأتي:
1- الصورة البشعة لدى مثقفينا عن جلافة الأتراك وظلمهم وعنجهيتهم.
2- صورة اللاجئين السياسيين الآن إلى الغرب، وكيف انقلب الحال.
3- محاولات الهجرة إلى العواصم الغربية، والقيود التعسفية التي يضعها الغربيون، من شرط الكفاءة العلمية والخبرة الفنية، بل والقدرة المالية حيث تشترط بعض هاتيك البلاد أن يحول من يريد الهجرة إليها مبلغًا لا بأس به من آلاف الدولارات، وكأنهم بهذا لا يكتفون استنزاف العقول، والخبرات والكفاءات، بل أيضًا المال ، وهم بهذا يريدون امتصاص المهاجرين والاستفادة منهم، وليس البِّرّ بهم وإتاحة الفرصة لهم، وتحقيق رغبتهم.
4- تأمل أيضًا المؤتمرات واللقاءات والتدابير التي يتحدثون عنها صباح مساء لوقف الهجرة التي يسمونها غير مشروعة.
5- تأمل فتح القسطنطينية، وقارنه، لا أقول بدخول الجحافل الصليبية إلى بيت المقدس وبلاد الشام، ولا بدخول جيوش الاستعمار إلى ديار العالم الإسلامي، بل قارنه بدخول الجيوش الألمانية إلى باريس في الحرب العالمية الثانية، التي لم يمضِ عليها إلا بضع وستون عامًا، قارن وانظر إلى ما قام به عساكر الألمان من فظائع في شوارع باريس، وما لاقاه الفرنسيون من إذلال وامتهان، وما كان من اغتصاب الفتيات الفرنسيات على قارعة الطريق - وبعض اللائي اغتصبن مازلن أحياء إلى اليوم، ومازال الذعر يطل من أعينهن كلما ذكر اسم الألمان - قارن هذا بما حكيناه لك آنفًا عن سماحة الأتراك عند دخولهم القسطنطينية، هذه السماحة التي شهد بها المؤرخون الغربيون والرحالة المعاصرون أنفسهم، هذه السماحة التي كانت أوضح وأكبر من يكتمها هؤلاء، مع بغضهم وتحاملهم الذي يفوح من بين السطور.
- والأعجب من كل هذا أن الفرنسيين وجدوا - رغم كل هذا - ما يجمعهم بالألمان، فقادوا معًا دفَّة الاتحاد الأوروبي، وصارتا نموذجًا للصداقة والتعاون والتقارب. وما زلنا نحن نحمل بين جوانحنا صورة شوهاء مستبشعة للخلافة العثمانية، التي كانت حاملة لواء الإسلام نحو خمسمائة عام.
- الكاتب:
د . عبد العظيم الديب - التصنيف:
مدن ومعالم حضارية