من شاهد وقائع الاحتفال بتوقيع مبادرة جنيف والشخصيات العالمية البارزة التي أيدتها بحضورها، وكلماتها، وتصفيقها، يعتقد أن السلام تحقق بالفعل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة الرخاء والتعايش والبقرات السمان.
هذا الاهتمام العالمي بمبادرة جنيف لا يأتي بسبب أهمية من تفاوضوا علي هذا الاتفاق وصاغوا بنوده، فكلاهما عاطل عن العمل، ولا يملك حزبا أو دعما سياسيا قويا خلفه، وكلاهما (ياسر عبد ربه ويوسي بيلين) انحسرت عنهما الأضواء بعد خروجهما من الوزارة، وباتا يبحثان عن دور، ونجحت الحكومة السويسرية في توفيره لهما، وتقديم الغطاءين المادي والسياسي لمبادرتهما.
المبادرة الجديدة حظيت بهذا الاحتفال المبالغ فيه؛ لأنها أول مبادرة سلام يكون أحد أطرافها فلسطينياً، وتتنازل عن جوهر الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أي حق العودة وتقبل بدولة فلسطينية منزوعة السلاح والكرامة، ولا سلطة أو سيادة لها علي معابرها أو حدودها أو أجوائها أو مياهها.
دولة خاضعة بالكامل للانتداب الإسرائيلي المباشر، وتدار سلطتها من تل أبيب، ومهددة بالاجتياح، في أي لحظة، ولا نفهم لماذا يدعم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مثل هذه المبادرة، ويرسل مجموعة من رجاله للمشاركة في حفل توقيعها، مثلما لا نفهم كيف يسمح للسيد ياسر عبد ربه أن ينخرط في مفاوضاتها السرية مع شريكه الإسرائيلي يوسي بيلين، عندما كان وزيرا في السلطة التي يرأسها.
فمن المفترض أن هناك خريطة طريق معتمدة أمريكيا وأوروبيا وروسياً وأممياً، وافقت عليها السلطة، فلماذا القفز إلي مبادرة جديدة ومباركتها رسمياً، واعتماد تنازلاتها الكارثية عن حقوق أساسية؟ نتمنى أن تبدأ هذه السلطة خطوة وتكملها!
يقولون : إن الرئيــس عرفات يتكتك سياسياً ويريد إحراج شارون، وكسر الحصار المفروض عليه، ونحن نقول: إنه ليــس تكتيـــكا وإنما مقامرة ربما تأتي بنتائج عكسية تماماً علي عرفات والقضية الفلسطينية معاً.
مبادرة جنيف أحيت الانقسامات في صفوف الشعب الفلسطيني، وسجلت سابقة خطيرة، بل الأخطر في تاريخ الصراع، أي التنازل عن السيادة، وحق العودة، وخارج إطار المفاوضات.
بنود مبادرة جنيف ستكون الأساس لأية مفاوضات قادمة بين العرب والإسرائيليين، وستشكل السقف الأعلى للمطالب الفلسطينية، وهذا السقف غالبا يتعرض للانخفاض عندما يجلس المفاوضون علي مائدة التفاوض، لأن الحقيقة الثابتة في فن التفاوض هي وصول الأطراف المتفاوضة إلي حلول وسط، أي أقل كثيرا من مطالبها الأساسية.
ومن المؤسف أن هذه التنازلات الفلسطينية المجانية التي يقدمها رجال السلطة، ورجال النخبة السياسية الحاكمة، تأتي في وقت تعيش فيه الدولة العبرية في مأزق حقيقي يهدد وجودها، ويتجه فيه التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي نحو الفشل المخجل في العراق وأفغانستان، بسبب المقاومة المتعاظمة وخسارة الحرب ضد الإرهاب.
القضية الفلسطينية تعيش هذه الأيام أقوي مراحلها، لأن المشروع الصهيوني، وباعتراف رموزه، يواجه الانهيار، ويهودية إسرائيل تتآكل بشكل مرعب، والعالم كله يشهد عملية تغيير متسارعة يتناقص فيها التعاطف مع اليهود، وتتصاعد فيها الشكاوي من غرورهم وجرائمهم وإرهابهم.
فليس صدفة أن يعلن ستون في المئة من الأوروبيين عن إيمانهم بأن إسرائيل هي مصدر الإرهاب والخطر علي أمن العالم وسلامه واستقراره، وليس صدفة أيضا أن يضيق اليهود ذرعا باليهود، ويعلن الحاخام عفاديا يوسف زعيم حركة شاس أن اليهود الغربيين هم مصدر الشرور كلها . ويدين أربعة من قادة الشين بيت سياسة حكومتهم، ويمتنع طيارون عن الخدمة.
هذا التغيير العالمي لم يأت من فراغ وإنما نتيجة المقاومة الفلسطينية والعمليات الفدائية الجريئة، والجهاد الإعلامي العربي في الخارج، والأخطاء الأمريكية الكارثية في العراق وأفغانستان، والممارسات الإسرائيلية الوحشية في فلسطين المحتلة.
سلاح معاداة السامية المدعوم أمريكيا لم يعد مجديا في إرهاب العالم، والغربيين خاصة، لأن هناك سلاحا أقوي منه، بدأ يثبت فعاليته، وينتشر انتشار النار في الهشيم اسمه معاداة الأمركة ، خاصة في أوروبا والعالم الثالث.
في ظل هذه المتغيرات العالمية من المفترض أن يتوقف رجال السلطة عن الفهلوة وتقديم التنازلات المجانية. والتمسك بالانضباط السياسي والأخلاقي الكامل، ولكنهم لم يفعلوا لأن هناك قادة او سياسيين، لا يهنأ لهم بال دون التفاوض مع شارون أو غيره، والتنازل عن الحقوق الفلسطينية، لأنهم أدمنوا الهوان، ويلهثون خلف دعوة تأتيهم من أوروبا أو أمريكا، تعيدهم إلي الأضواء مجددا، وتوفر لهم الذريعة للتبضع في أسواق جنيف ومدريد وأوسلو ونيويورك.
يوسي بيلين قال إنه بهذه المبادرة يريد أن ينقذ دولة إسرائيل، ويحافظ علي الأغلبية الديمغرافية لليهود أمام خطر الانقراض والتآكل. فلماذا يحقق له ياسر عبد ربه هذا الهدف، ولماذا يبارك الرئيس عرفات هذا المجهود الذي يصب في مصلحة إنقاذ الدولة العبرية؟
السلطة الفلسطينية تريد إنقاذ نفسها وتوفير فرص البقاء لبعض رموزها، ولذلك لا يتورع بعض هؤلاء عن التضحية بمصالح الشعب الفلسطيني الأساسية من اجل تحقيق هذا الهدف. والذريعة الجاهزة دائما هي ضرورة خوض المعركة السياسية وكسر الجمود.
هذه الاجتهادات العقيمة هي التي أوصلتنا إلي هذه النتيجة المأساوية، حيث يواجه الشعب الفلسطيني حصارا خانقا، ونزيفا بشريا يوميا، ويعيش تحت الاحتلال وإفرازاته الإرهابية، بينما يبحث كبار قادته وصغارهم عن امتيازات صغيرة، مثل حرية التحرك علي المعابر، دون مضايقات أو تفتيش.
إننا نطالب بمحاكمات شعبية في كل مخيمات اللجوء، وأماكن الشتات، لكل مسؤول فلسطيني يتنازل عن حق العودة، والثوابت الفلسطينية الأخرى، وخاصة السيادة الكاملة وغير المنقوصة علي القدس. فالشعب الفلسطيني لم يفوض ياسر عبد ربه، ولا سري نسيبة، ولا أحمد قريع ولا ياسر عرفات للتنازل عن هذه الثوابت. فهذا الشعب هو المرجعية الأساسية، وهو مصدر كل السلطات، ولا يستحق مثل هذه الإهانات، بعد كل ما قدمه من بطولات وتضحيات.