ليس ثمة كتاب على وجه البسيطة منذ خلق الله الخلق إلى يومنا هذا ، تكفل الله بحفظه ، من عبث العابثين ، وتحريف المحرفين ، مثل القرآن الكريم ، كتاب الله الخالد ، قال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9 ) ، أما الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل ، فلم يتكفل سبحانه بحفظها بل أوكل حفظها وأوجبه على علماء تلك الأمم ، قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } (المائدة: 44) ، لكن بعضهم حرفوا وبدلوا وغيروا لأغراض وأهواء شخصية ، فتحولت تلك الكتب من كتب هداية وحق خالص إلى كتب خلط فيها الحق بالباطل ، فظهر فيها التناقض والاختلاف ، وقد أخبرنا الله بخبر تحريفهم لكتبهم ، حتى نعلم حقيقتها ، ولا نغتر بما في أيديهم ، فقال سبحانه : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } ( النساء:46 ) . وقال أيضاً :{ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } ( المائدة : 41 ) ، ونحاول في هذا المقال أن نستعرض بعض الأدلة على تحريف التوراة من واقع التوراة نفسها ، حتى يكون ذلك أبلغ في الحجة وأقطع للنزاع ، فنقول وبالله التوفيق ، أدلة تحريف التوراة من واقعها كثيرة جداً نذكر منها :
أولاً : الاختلاف الكبير بين نسخ التوراة :
فالقرآن - كلام الله سبحانه - واحد لا زيادة فيه ولا نقصان ، ولو تعددت نسخه وطبعاته ، فلو ذهب الإنسان إلى أقصى المشرق أو إلى أقصى المغرب لوجد المصحف نفسه ، لا اختلاف بين نسخه ولو في حرف من حروفها ، أما التوراة المحرفة فمن أعظم الأدلة على تحريفها وتدخل البشر في وضعها اختلاف نسخها ، فعدد أسفار النسخة العبرية المترجمة إلى العربية تسعة وثلاثون سفراً ، وما عدا ذلك لا يعتبره اليهود مقدساً ، وأما النسخة السامرية المترجمة إلى العربية فتحتوي على خمسة أسفار يسمونها " أسفار موسى " وقد يضمون إليها سفر يوشع . فانظر إلى هذا التباين الكبير ، الذي ليس له من تفسير سوى تدخل أيدي التحريف والعبث بكتاب الله ( التوراة ) عن طريق الزيادة والنقص .
ثانياً : الكذب في التوراة :
وليس هذا تقولا منا دون دليل ، فمن المعلوم أن الخبر إذا كان عن الله سبحانه فلا يمكن أن يتخلف عن الوقوع ، ومع ذلك ففي التوراة ما يخالف ذلك ، حيث حكوا في التوراة " أن بني إسرائيل يسكنون تلك الأرض ( فلسطين ) إلى الانقراض " ثم لم يلبثوا أن أخرجوا منها في عهد بختنصر ، وفي عهد تيطس الروماني وشردوا منها كل مشرد ، فقد ظهر أن ذلك باطل وكذب ، وما هي إلا أمانٍ سطرها أحبار اليهود ونسبوها لله جل وعلا .
ثالثاً : نسبة ما لا يليق لله جل وعلا :
ليس ثمة مؤمن بالله جل وعلا إلا وهو يعتقد اتصاف الله عز وجل بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص ، فلله عز وجل الكمال المطلق ، ولكن اليهود من شدة دناءتهم وخسة أخلاقهم ، لم يكتفوا بتسليط ألسنتهم على خلق الله عز وجل ، بل تعدوا وبغوا حتى سلطوها على الخالق سبحانه ، ويا ليت أمر انتقاصهم لله جل وعلا اقتصر على أحاديثهم في مجالسهم ، بل سطروا ذلك في التوراة زاعمين أنها من كلام الله ووحيه فأي عقول تلك ، وأي عقول تلك التي تصدق هراءهم ، ولنذكر بعضا مما في توراتهم مما فيه مسبة لله جل وعلا .
1- يزعم اليهود أن الله يندم على فعله ، فمن ذلك ما ذكروه في سفر الخروج ( 32/14 ) : ( فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه ) . فانظر إلى هؤلاء كيف أخرجوا أفعال الله سبحانه عن أفعال أهل الحكمة إلى أفعال أهل الجهل والسفه الذين يفعلون الفعل بسفههم ثم يندمون عليه، وانظر إلى نسبتهم الشر إليه سبحانه ،وكأن العقوبات التي يذيقهم الله إياها خارجة عن الحكمة والعدل إلى الجور والظلم .
2- ومن ذلك ما ذكره السموأل بن يحيى المغربي - وكان من علماء اليهود فأسلم - في كتابه إفحام اليهود أن اليهود ذكروا في التوراة أن الله قال لهم أن يضربوا القرن في عسكرهم قليلاً قليلاً حتى يلقوا عدوهم فحينئذ يضربونه بأشد ما يقدرون عليه ليسمعهم الله فيؤيدهم على عدوهم فكأنه سبحانه وتعالى لا يسمع إلا الأصوات العالية ، فأين هذا من وصف الله تعالى نفسه في كتابه حيث قال سبحانه : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } (الرعد:10) .
3- ومن ذلك زعمهم أن الله عز وجل يعمل فيتعب فيرتاح ، تباً لهم ، هل تصوروا الله بشرا مثلهم فقاسوه على أنفسهم الضعيفة فنسبوا له الضعف والوهن!! ففي سفر التكوين ( 2/ 2 ) : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل ) ، وقد ردَّ الله سبحانه هذا القول في القرآن مبينا عظمته وكمال قدرته ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } ( ق :38) .
هذه هي بعض أوجه التحريف في التوراة - وسنكملها في مقال لا حق - وهي تدل على مدى استخفاف اليهود بأمر ربهم في حفظ كتابه ، وانتقاصهم له ، حيث طغت وتعدت مصالحهم وأهواءهم الشخصية على أقدس كتاب بين أيديهم ، فعبثت به أيدي التحريف والتغيير ، فكثرت نسخه وتعددت ، وتفاوتت عددا وكثرة ، في دلالة صريحة على عظم ما اقترفته أيديهم .