أوليتـني نعماً أبـوح بشكرها.. .. .وكفيتني كُلَّ الأمـور بأسرها
فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمُتْ.. .. ..فلتشكرنك أعظُمي في قبرها
يا مَن عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة، وقد رُفع لك علم فشمّرْ إليه فقد أمكن التشمير، واجعل سيْرَك بين مطالعة منَّته ومشاهدة عيْب النفس والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة، يقول: هذه منُجيتي من عذاب السعير. ما المعوَّل إلاَّ على عفوه ومغفرته؛ فكلُّ أحدٍ إليها فقير. أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي.
ما تساوي أعمالك - لو سَلِمَتْ ممَّا يُبطلها - أدنى نعمة عليك، وأنت مُرتَهن بشكرها من حين أرسل بها إليك، فهل رعيتها بالله حقَّ رعايتها وهي في تصريفك وطوْع يديك؟! فتعلَّق بحبل الرجاء، وادخل من باب العمل الصالح؛ إنه غفور شكور.
نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها، وعرَّفه طُرُق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذَّره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها، وقال: إن أطعت فبفضلي وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضائي وأنا أغفر؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:34].
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ من العجز والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
أعطاه ما يُشكر عليه، ثم يشكُرُه على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يُحسن جزاءَه ويقرِّبه لديه، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحَه بين يديه؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها، وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، وخرقت السَّبْعَ الطِّباق دعواتُ التائبين والسائلين فسمعها، ووسع الخلائق عفوُه ومغفرتُه ورزقُه؛ فما من دابة في الأرض إلاَّ على الله رزقها ويعلم مستقرّهَا ومستودعها؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
يجودُ على عبيده بالنوافل قبل السؤال، ويُعطي سائله ومؤمِّله فوق ما تعلَّقت به منهم الآمال، ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبُه عدد الأموال والحصى والتراب والرمال؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرحُ بتوبة التائب من الفاقد لرالحته - التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة - إذا وجدها، وأشكرُ للقيل من جميع خلقه؛ فمن تقرَّب إليه بمثقال ذرَّة من الخير شكرها وحمدها؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أنَّ رحمته تغلب غضبه؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
يُطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلُم ، ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قطُّ من أهله؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عددٍ ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها-إن شاء ربنا- إلى العفو والغفران، وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والأرض إلى آخر الزمان؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
بابه الكريم مناخ الآمال ومحطُّ الأوزار، وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث، بل هي مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار؛ (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).[عن:صلاح الأمة للعفاني]
الله عز وجل هو الشكور على الحقيقة:
"والله عز وجل أولى بصفة الشكر من كلَِّ شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد ويوفِّقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا ييستقلّه أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعافٍ مضاعفة، ويشكر عبده بقوله بأن يُثني عليه بين ملائكته وفي مَلَئه، ويُلقي له الشكر بين عباده ويشكره بفعله، فإذا ترك له شيئًا أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئًا ردَّه عليه أضعافًا مضاعفة، وهو الذي وفَّقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك.
ولمَّا عقر نبيُّه سليمان الخيل غضبًا له إذ شغلتْه عن ذكره، فأراد أن لا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متْن الريح. ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته؛ أعاضهم عنها أن ملّكهم الدنيا وفتحها عليهم.
ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن، شكر له ذلك بأن مكَّن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزَّقها أعداؤه؛ شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرًا خضرًا أقرَّ أرواحهم فيها، تَرِدُ أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فيردُّها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه.
ولما بذل رُسُلُه أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبُّوهم؛ أعاضهم من ذلك بأن صلَّى عليهم هو وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء في سماواته وبين خلقه، فأخلصهم بخالصةٍ ذكرى الدار.
ومن شكره سبحانه: أنه يجازي عدوَّه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفِّف به عنه يوم القيامة؛ فلا يُضيِّع عليه ما يعمله من الإحسان، وهو من أبغض خلقه إليه!!
ومن شكره: أنه غفر للمرأة البغي بسقْيها كلبًا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصْن شوكٍ عن طريق المسلمين.
فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما يشكرُ من أحسن إليه. وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يُحسن به إلى نفسه، وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة التي لا نسبة لإحسان العبد إليها. فهو المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر. فمن أحقُّ باسم الشكور منه سبحانه؟!
ومن شكره سبحانه: أنه يُخرج العبد(المؤمن) من النار بأدنى ذرَّة من خير، ولا يُضيِّع عليه هذا القدْر.
ومن شكره سبحانه: أن العبد من عباده يقوم له مقامًا يُرضيه بين الناس؛ فيشكر له، ويُنَوِّه بذكره، ويُخبر به ملائكته وعباده المؤمنين. كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام، وأثنى عليه، ونوَّه بذكره بين عباده. وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته إليه، فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته إلا هالك".[عُدَّة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم، ص279 - 280].
معنى الشكر وأركانه:
الشكر هو الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف.
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان لا يكون شكرًا على الحقيقة إلا بمجموعها وهي:
- الاعتراف بالنعمة باطنًا.
- والتحدث بها ظاهرًا.
- والاستعانة بها على طاعة الله.
فالشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
من فضائل الشكر:
لقد قرن الله عز وجل الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا، فقال: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء:147]، أي إن وفيتم ما خلقتم له وهو الشكر والإيمان فما أصنع بعذابكم؟.
وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده، فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53]. وقسم الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله، فقال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:3]، وقال تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]، وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]. فعلق سبحانه المزيد بالشكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره.
وقد وقف سبحانه كثيرًا من الجزاء على المشيئة كقوله تعالى: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) [التوبة:28].
وقال في الإجابة: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) [الأنعام:41].
وقال في الرزق: (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:212، وغيرها].
وقال في التوبة: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) [التوبة:15].
وأطلق جزاء الشكر إطلاقًا حيث ذكر كقوله: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)[آل عمران:145]، وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].
ولما عرف عدو الله إبليس قدر مقام الشكر، وأنه من أجل المقامات وأعلاها جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال: (ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:17].
ووصف سبحانه الشاكرين بأنهم قليل من عباده فقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سـبأ: 13].
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى الأرض بالشكر فقال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء:3].وفي تخصيص نوح هاهنا بالذكر وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به، فإنه أبوهم الثاني، فإن الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلاً إلا من ذريته كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) [الصافات:77]، فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر، فإنه كان عبدًا شكورًا.
وقد أخبر سبحانه أنما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172].
وأخبر أن رضاه في شكره، فقال تعالى: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر:7].
وأثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكر نعمه فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:120، 121]. فأخبر عنه سبحانه بأنه أمة، أي قدوة يؤتم به في الخير، وأنه كان قانتًا لله، والقانت هو المطيع المقيم على طاعته، والحنيف هو المقبل على الله المعرض عما سواه، ثم ختم له هذه الصفات بأنه شاكر لأنعمه، فجعل الشكر غاية خليله.
وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه، بل هو الغاية التي خلق عبيده لأجلها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تفطرت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". [رواه البخاري ومسلم].
وثبت عنه أنه قال لمعاذ: "والله إني لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". [رواه أبو داود].
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها". فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)[التوبة:72] في مقابلة شكره بالحمد.
والشكر قيد النعم وسبب المزيد، كما قال عمر بن عبد العزيز: "قيدوا نعم الله بشكر الله". وذكر ابن أبي الدنيا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لرجل من همذان: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد".
العلاقة بين الشكر والصبر:
قال ابن حجر رحمه الله:" الشكر يتضمن الصبر على الطاعة،والصبر عن المعصية،وقال بعض الأئمة: الصبر يستلزم الشكر ولا يتم إلا به،وبالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر.فمن كان في نعمة ففرضه الشكر والصبر .أما الشكر فواضح وأما الصبر فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر ، أما الصبر فواضح وأما الشكر فالقيام بحق الله في تلك البلية ،فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء".
شكر الجوارح:
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ فقال: "إن رأيت بهما خيرًا أعلنته، وإن رأيت بهما شرًّا سترته". قال: فما شكر الأذنين؟ قال: "إن سمعت بهما خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًّا دفعته". قال: فما شكر اليدين؟ قال: "لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًّا لله هو فيهما". قال: ما شكر البطن؟ قال: "أن يكون أسفله طعامًا وأعلاه علمًا". قال: فما شكر الفرج؟ قال: "(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)[المعارج:29 - 31]". قال: فما شكر الرِّجلين؟ قال: "إن علمتَ مَيْتًا تغبطه استعملتَ بهما عمله، وإن مَقَتَّهُ رغبتَ عن عمله وأنت شاكر لله، وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه فما نفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر".
من آثار السلف وأقوالهم في الشكر:
قال الحسن: "أكثروا من ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر، وقد أمر الله نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى:11]، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده فإن ذلك شكرها بلسان الحال.
وكان أبو المغيرة إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: "أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غني عنَّا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون".
وقال شريح: "ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم: ألا تكون كانت في دينه، وألا تكون أعظم مما كانت، وأنها لابد كائنة فقد كانت".
وعن سفيان في قوله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)[القلم:44] قال: "يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر". وقال غيره: "كلما أحدثوا ذنبًا أحدث لهم نعمة".
وكتب بعض العلماء إلى أخٍ له: "أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصيه، فما ندري أيهما نَشكر أجميل ما يَسَّرَ أم قبيح ما سَتَرَ".
وقال يونس بن عبيد: "قال لرجل لأبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله علي فلا تستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي".
وقال الحسن: ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطي أكثر مما أخذ".
قال ابن القيم رحمه الله: "قوله: (الْحَمْدُ للهِ) نعمة من نعم الله، والنعمة التي حمد الله عليها أيضًا من نعم الله، وبعض النعم أجل من بعض، فنعمة الشكر أجلّ من نعمة المال والجاه والولد والزوجة ونحوها والله أعلم".
قال محمود الوراق رحمه الله:
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً .. .. ..علي له في مثلها يجب الشكـرُ
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله .. .. ..وإنْ طالت الأيام واتَّصل العمرُ
إذا مسَّ بالسراء عمَّ سرورُها .. .. ..وإن مس بالضراء أعقبها الأجرُ
وما منهما إلا له فيـه مـنة .. .. ..تضيق بها الأوهام والبر والبحرُ
نسأل الله الكريم بمنه أن يجعلنا من عباده الشاكرين.