ما كان لأحد أن يتصور أن فكرا كفكر الحداثيين يمكن أن يتسلل إلى عقول المسلمين، ويتخذ منها منابر للدعوة إليه، والتغني بمبادئه وأوهامه، لولا ما يعيشه المسلمون من حالة الجهل والتخلف في فهم دينهم، وغياب السلطة الإسلامية التي تحول دون ظهور هذه الفقاعات النتنة، بنشر العلم والمعرفة الصحيحة من جهة، والقيام في وجه دعاة الضلالة والزيغ من جهة أخرى .
فغياب المعرفة الصحيحة وغياب السلطة الإسلامية التي تحفظ الدين وتدفع عنه، أدى إلى ظهور المذاهب الهدامة والأفكار الضالة، فقد أطلّت علينا البدع الكفرية برأسها وتبجحت بدعوتها وأفكارها، وصار للكفر أدب وللردة مبادئ وأفكار، وما دمنا في هذا الزمن فليس بمقدورنا تجاه هذه الأفكار إلا أن نناقشها مناقشة العقل والفكر ، وأن نحذر المسلمين من مغبة الولوغ فيها والارتكاس في حمأتها ، فهي الحالقة ، لا نقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين، وتجلب الخزي والعار والدمار في الدنيا قبل الآخرة .
فأدب الحداثة -كما يسمونه - ليس إلا وسيلة لنشر أفكار الحداثيين ومبادئهم، وهم يحاولون تغليف هذا الأدب برداء من الغموض يخفي معانيه، بحيث لا يستطيع المرء أن يفرق بين ما يقوله الحداثيون من شعر وبين ما يهذي به المجانين والمختلون عقليا .
فأنت تستطيع أن تعرف مفردات كلامهم، ولكنك أبدا لا ولن تستطيع أن تفهم تلك التراكيب الركيكة واللغة السمجة السقيمة التي يتحدثون بها، ولا تعجل علينا وتتهمنا بالتجني ، فما سنذكره من نماذج لشعرهم ربما حملك - أخي القارئ - على وصفها بأبلغ مما وصفنا وأقذع .
وإليك بعض هذه النماذج وهي منقولة من كتاب الدكتور عوض القرني " الحداثة في ميزان الإسلام " :
يقول رمزهم المبدع ـ كما يسمونه ـ عبد الله الصيخان في قصيدة حداثية نشرت في مجلة اليمامة عدد 896 :
( قفوا نترجل
أو قفوا نتهيأ للموت شاهدة القبر ما بيننا يا غبار ويا فرس
يا سيوف ويا ساح يا دم يا خيانات
خاصرة الحرب يشملها ثوبها
كان متسخا مثل حديث الذي يتدثر بالخوص
كي لا يرى الناس سوأته
كنت أحدثكم
للحديث تفاصيله فاسمعوني
فقد جئت أسألكم عن رمال وبـحر وغيم وسلسلة زبرجد )
أخي القاريء هل فهمت شيئاً ؟ فنحن لم نفهم !!!
ويقول الجحدلي :
( أرتق وجه السماء المغطاة بالعشب
أدوَّن ما يشدو البحر به
هو الليل يأتي لنا حاملاً شمسـه
هو الموت يبدأ من أحرف الجر حتى السواد
وينسل طيف الأرانب بين المفاصل والأمكنة
يضيء الغدير المعبأ بالخيل والليل والكائنات الكئيبة
وللنهر بيض يفقس بعد المساء الأخير
وللخوف وجه الذي يشتهيه الشجر )
انظروا إلى هذا العجب، وجه السماء مغطى بالعشب ! ثم ماذا الليل يحمل شمسه ، أليس الليل يحمل ظلاما لا شمسا ونوراً، ثم ماذا أيضاً الموت يبدأ بحروف الجر حتى السواد !!
ويقول مبدع آخر !! : " وهبطت زنجية شقراء في ثوب من الرعب بديع " . يعلق الدكتور القرني قائلا : هل رأيت - أيها القارئ - زنجية شقراء قبل اليوم، وثوبا من الرعب وبديعاً في نفس الوقت ؟!
وفي جـريدة عكاظ العدد 7566 كتب الـسـريـحي تحت عنوان (3 خطوات في حضرة البياتي) فكان مما قال : "يأخذك حديثه، يرسم لك مدنا من ثلج أسود، وزمن تركض شمسه مذعورة في الشوارع" . هل يوجد ثلج أسود ، أما " زمن تركض شمسه " فقد تكون مقبولة للدلالة على سرعة الزمن ، لكن أن تكون مذعورة وفي الشوارع ، فهذا يدعو للعجب !!
هذا الذي يسمونه الحداثة، ويعنون بها الثورة والتمرد على كل قديم، هل المراد منه أن نتحوَّل من الشرع والعقل إلى السفه والجنون ؟، هل يريدون منا أن نقرأ هذه التفاهات دون أن نفهم شيئا منها، لا لخلل في أفهامنا بل لإيرادهم كلامهم على وجه التعمية والإلغاز .
ومن العجب أن يفتخر الحداثيون بما يسمونه غموضا ونسميه نحن هذياناً، ويعدون ذلك من ضروب الإبداع ، فيقول سعيد السريحي فيما نشرته مجلة الشرق الأوسط في عددها 369 يقول أثناء تعليقه على أمسية : "إن هذه الأبواب الإبداعية ذات طبيعة تجعل من الغموض ضربة لازب" .
وأمر عجيب آخر وهو أنهم يعترفون أن قصائدهم من الصعب تفهمها، وليس هذا فقط بل إنهم يقولون إنها تخلت أن يكون لها غرض ما، وأصبحت اللغة فيها غير ذات دلالة، غير أنهم يظنون أن لها إيحاءات ولا ندري أي إيحاءات في أن للنهر بيضاً يفقس في المساء الأخير !! ، وأن للموت أحرف جر حتى إلى السواد !! .
يقول السريحي في صفحة 31 من الكتاب : "ومن هنا أصبح من الصعب علينا أن نتـفهم القصيدة الجديدة، بعد أن تخلت عن أن يكون لها غرض ما، وأصبحت اللغة فيها لا تشير أو تحيل إلى معنى محدد، وإنـما هي توحي بالمعنى إيـحاءً بحيث لا تـنتهي القصيدة عند انتهاء الشاعر من كتابـتها، وإنما تظل تـنمو في نفس كل قارئ من قرائها، حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لـها من القراء " ، لا أظن أن ثمة معاني سيخرج بها القارئ من قصيدة حداثي، غاية ما يمكن أن يخرج به القارئ أن يحمد ربه على نعمه، ويسأل الله العافية والسلامة .
إن عظمة الإسلام تتجلى في النظر إلى حال هؤلاء الذي أرادوا الثورة على القديم بمبادئه وأخلاقه وقيمه فلم يجدوا إلا هذا الهراء الذي يسمونه إبداعا، وأصبح الغموض المقصود في قصائدهم نتيجة تقليد للنهج الحداثي الغربي، هو السبيل لبث أفكارهم حتى لا يصطدموا بالمسلمين الذين يرون في أفكار الحداثة خروجا عن الدين بل وعن الأدب . يقول أحمد عائل فقيه في عكاظ العدد 7371 الصفحة 10 : "إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع، وذلك هو المأزق الثقافي الشائك الذي لا تدري كيف يمكن بالكاد تجاوزه وتخطيه، أنت في كل هذا تصطدم مرة أخرى بجملة حقائق ومسلمات اجتماعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي في أذهان الناس . ألا بديل لما هو سائد ومكرس أيضاً ؟ إذا كيف يمكنك تمرير ما تحلم به، وما تود أن تقوله علناً " ، فالخوف إذاً هو ما يدفعهم إلى الغموض ، والخوف إذاً هو ما يدفعهم إلى التستر على أفكارهم، وهذا فيه مؤشر خطير على خطورة ما يدعوا إليه هؤلاء مما فيه معارضة ومناقضة لأصول الإسلام الثابتة، ولعل ما ذكرناه في مقالنا " الحداثيون ونماذج من أدبهم " أكبر دليل على عظم ما يعتلج في صدورهم، نسأل المولى عز وجل أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يثبت قلوبنا على الحق والعمل به ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .