إن التربية بالحدث تفعل فعلها أكثر مما لو كانت كـلامــــاً منمقاً مرصوصاً بأسلوب بديع، والمتأمل لسير الأوائل من هذه الأمة يتعجب من هذه النفـسـيــة العجيبة المعطاءة لأبناء هذا الدين التي لا تكل ولا تمل ـ مهما كانت الظروف والأحوال، سواء أكانت أيام مكة أو بعد الهجرة ـ تقدم وتبذل، وقد تكون محاولات ينجح بعضها ولا يحـالـف الـتـوفـيــق البعض الآخـــــر، ولكنها عطاء لله: ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))، ((ومــا أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه)).
الفاروق والهجرة
من أولئك الـنـفــر الذيـن بـذلـــــوا أنفسهـم: عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فهو عمر الحريص على دخول الناس في الإســلام والتمسك به، وتثبيت المؤمنين المستضعفين حدثاء العهد بالإسلام، وهو عمر لا ينتظر الأوامـــــر ولا يقف عند مرحلة التفكير، بل يسارع إلى التنفيذ مباشرة، فما كان يعرف التردد في مثل هذه الأمور،... لننظر ماذا فعل أثناء هجرته وبعدها داعياً إلى الله (سبحانه وتعالى)، متبعاً عـدة طرق ووسائل، كان همّه فيها هو هداية الناس إلى الإسلام وثباتهم عليه.
تذكـر كتب السير ـ بإسناد حسن(1) ـ قصة هجرة عمر بن الخطـاب (رضي الله عنه)، أنه قال: اتـعــدت ـ لما أردنا الهجرة إلى المدينة ـ أنا وعياش ابن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السـهـمي التَنَاضُبَ(2) من أضَاةِ بني غفار فوق سَرِف، وقلنا: أينا لا يصبح عندها فقد حُبس، فليمض صاحباه.
قال:فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل ابن هشام والحارث بن هـشـــام إلى عياش بن أبي ربيعة ـ وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما ـ حتى قدما علينا المدينة ـ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ـ فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، فرقّ لها.
فقلت له: يا عياش إنه ـ والله ـ إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم..
فقال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.
فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما.
فلما أبى إلا ذلك قـلـت: أمــــا إذا قد فعلت ما فعلت؛ فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما.
حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟
قال: بلى.
قال: فأناخ وأناخ ليتحول عـلـيـهــا، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة وفَتنَاه فافتتن.
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل مـمــن افـتـتـن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم.
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رســـــول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أنزل الله (تعالى) فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: ((قـل يـا عـبــــادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هـو الغـفـــــور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)) [الزمر:53-54].
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص.
قال: فـقـــال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصعد بها فيه وأصـــــوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها.
قال: فألقى الله (تعالى) في قلبي أنها إنما أنزلت فيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا.
قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.أ.هـ.
جلد الكافر
هذه هي القصة، وهذه هي جهود الفاروق (رضي الله عنه) في ذلك الوقت، وإن المرء ـ وهو يمر عليها ـ ليتـعـجـــب أشد العجب من أمرين: أحدهما: حرص أبي جهل، ذلك الذي يسافر، ويقدم ويؤخر، ويـبـــذل، ويستخدم الأساليب الملتوية باسم البر بالوالدين وباسم الرحم ـ كونه قريباً لعياش بن أبي ربـيـعــة ـ، بل ويصطحب الحارث بن هشام إمعاناً في القربى، غير مكترث بنجاح النتائج من عدمها، كل ذلك في سبيل الشيطان والصد عن دين الله، ثم لا يقتصر على ذلك، وبدلاً من دخول عياش إلى مكة على ناقته مكرماً معززاً نظراً لبره بأمه، فإنهما استخدما خدعة ماكرة؛ حـيــث أوثـقـاه وقيداه حتى يدخل مكة ذليلاً حقيراً كناية عن ذلة من اتبع محمداً، وإنذاراً لمن سولت لـه نفسه من قريش سلوك طريق عياش، تماماً كما تُستخدم بعض الأساليب الشبيهة بذلك ضد الدعاة إلى الله اليوم.
وسائل مختلفة
وننتقل إلى الجانب الآخر لننظر إلى ذلك المؤمن الذي يأبى أن يـهـاجــر كما يهاجر غيره، فنراه يختار صحبة رجلين، قد يكون اختارهما على غيرهما لأمر أراده من تقوية عزيمتهما وإنقاذهما مما هما فيه من الفتنة، وحيث قد وفق عياش نجد أن هشاماً لم يستطع اللحاق بهما، ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل نجد فصلاً آخر يقدمه عمر؛ ألا وهو محاولته إقناع عياش بن أبي ربيعة بعدم الذهاب مع أبي جهل وكأنه عرف نية أبي جهل المبيتة، فهو هنا يعرض عليه نصف ماله، لا سلفة وإنما عطاء، كل ذلك ليثبته على الإســلام، وعندما لم تنجح هذه المحاولات عرض عليه ناقته ـ وهي ذلول نجيبة من أطايب النــوق آنذاك ـ حتى ينجو لو رابه أمر، ولكن ابن أبي ربيعة لم يعِ هذه المحاولات.
الدعوة بالمراسلة
وهل توقف الأمر عند هذا الحد؟، لا؛ بل تعدى إلى الدعوة بالمراسلة، فهو لم ينس صاحبه الذي حبس ليفتن في دينه، فنجد أن عمراً يسلك طريقة قد غفل عنها الكثير من الدعاة في هـــذا الزمن ـ زمن التقدم المادي والاتصال السريع ـ ألا وهي المراسلة، فأخذ صحيفة كتب فيها هذه الآيات.. ولعل السؤال يبرز هنا: لماذا يرسل عمر هذه الصحيفة لشخص ربما فتن في ديـنـــه؟ وهل سـيفهم هشام بن العاص الصحيفة؟ وعلى فرض فهمها، هل سيرجع إلى الإسلام كـمــا كـــــان؟ وعلى فرض ذلك، هل سيهاجر إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه؟ هذه اسـتـفهامات العاجزين القاعدين، الذين يديرون أمورهم بالنيات فقط.. وبالقول لا بالعمل، ولكن عمر يلقن هؤلاء هذا الدرس العظيم و((ما على الرسول إلا البلاغ)) وقد نجح البلاغ هـنـــا ـ بإذن الله ـ وتحقـقــت جميع هذه الاستفهامات، ونفع الله بهذه الصحيفة، وهاجر هشام بن العاصي إلى المدينة على يدي عمر (رضي الله عنه).
إن جيلاً فيه أناس بنفسية عمر لهو جيل عامل نشيط، وهكذا فلنكن مثل عمر وبمثل عزمه وحرصه على هذا الدين، إننا إذا كنا كذلك فسنفلح بإذن الله، وسيفتح الله على أيدينا ما هو مغلق، وينفع الله بنا البلاد والعباد، وقبل ذلك أنفسنا قبل غيرنا.
الهوامش :
1- سند القصة حسن، وقد أخرجها الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وفي السند ابن إسحاق، وقد صرح هنا بالتحديث.
2- التناضب وأضاة بني غفار: موضع واحـد ، الأضاة: أرض تمسك الماء فـيـتـكـون فيها الـطـيــن، والتناضـب: شجرات في هذه الأضاة، وهي لا زالت مشاهدة على جانب وادي سرف الشمالي.