ميز الله الإنسان بالعقل، وشرفه بالعلم، وهما صنوان إذا فقد أحدهما أصاب العطب الإنسان، وتعثرت مسيرته، وصعبت حياته، وكان غرضاً للمآسي والمشكلات.
ورغم أن العقل رائد الإنسان، ومحرك جوارحه؛ إلا أن العقل في أمس الحاجة للعلم حتى يستبين طريقه، ويستلهم رشده.
وقد تحدث الأدباء عن مناظرة متخيلة بين العقل والعلم، ليصلوا بها، إلى ضرورة التكامل بين العقل والعلم، ليحصل بهما الكمال الإنساني، ويستقيم بهما طرق العيش، وتقوم على اعتاقهما حضارة تميز الإنسان عن بقية مخلوقات الله على الأرض.
يقولون حصلت المناظرة المساجلة بين العلم والعقل، في جو هادئ يسوده الاحترام المتبادل، وقد شهد المناظرة حضور متعقل شغوف بالأدب والمعرفة.
وكان كل واحد من العقل والعلم يدعي الشرف والرفعة على الآخر.
قال العقل: أنا الذي أقوّم حياة الإنسان، وأنا مَن جعل البشر يصلون إلى أعظم استنتاج؛ جعلهم يوقنون أن لهذا الكون خالقاً ومدبراً؛ أوجده وجعل فيه نواميس تحكمه، وضمن فيه أرزاق الخلق، ومهد لهم سبل العيش، وهدى من هدى بفضله ورحمته، وأضل من أضل بحكمته علمه، فلَوْلايَ لكان الإنسان مثل بهيمة الإنعام سادراً في غيه، لا يعلم الحكمة من وجوده وخلقه، ولعاش عيشة القطعان التي يأكل قويُها ضعيفَها، فأنا من أرسى دعائم التعايش، وعمر الأرض بالبنيان، وفجر خزائنها، واكتشف غائرها، حتى أصبحت الأرض مكاناً رغداً للعيش والحياة، وسرد العقل كثيراً من مميزاته حتى ظن أنه أفحم العلم، وأثبت مكانته في الشرف والعلو على العلم، ثم سكت.
فانبرى العلم يبين مزاياه؛ فكان مما قال: أنا من يسوس العقل، ويدفعه للاكتشافات، وأنا من أرشد العقل إلى الإيمان بالخالق، وبينت للعقل صفات رب العزة والجلال، وهديته بالوحي المبارك المنزل من رب السموات والأرض، ثم إني أرفدت العقل والإنسان بشرائع الرحمن، وحدثته عن سير السابقين، وتاريخ الغابرين؛ حتى لا يسلك مسالك المجرمين، ولا يتيه في طرق المبطلين، ثم بعد أن استقام دين الإنسان أرشدته إلى طرق العيش الكريم، وحركت فيه نوازع البحث والاكتشاف، وزودته بالتجارب، وجمعت له خبرات الآخرين؛ ليستفيد منها في اختراعاته، وانجازاته، واستمر العلم يذكر محاسنه وأفضاله...
ليتدخل العقل قائلاً : أنا سيد الإنسان ولو فقدني لفقد الاتزان، وصار أخس من الحيوان، وانفلت من عقاله، وجنى على نفسه وعلى الآخرين الجنايات العظام.
فرد العلم قائلاً: ذلك لك، ولكنك بدون العلم لن يكون الأثر المرجو، فأنت تعلم أنك بدون العلم ستكون مقيد الحركة، وسيكون لتصرفاتك انعكاسات قد تحسب عليك، وأنا أنبهك هنا إلى مسألة قد تكون خافية عليك، فإن رب العزة والجلال من صفاته العلم، وهذا يعطيني الشرف والرفعة، فلما سمع العقل هذه المقولة أذعن لها، وعلم أن العلم أشرف منه، فقبل العقل رأس العلم وأقرّ له بالفضل والسؤدد.
فقال الحاضرون: أنتما توأمان إن فقد أحدكما، فقدت الحكمة، والرشاد، فأنت أيها العلم تؤطر العقل، وتوجهه للانطلاق، ويكفيك شرفاً قول الله تعالى فيك: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(سورة المجادلة 11)، وقوله تعالى: {وقل ربِّ زدني علماً}(سورة طه 114).
أما أنت أيها العقل فأنت المرشد الأكبر والدليل الأعظم دعوت لتعلم العلم، وسلكت مسلك الصبر والتحمل من أجل التزود بالعلم؛ فكانت النتائج باهرة، والاستفادة واضحة، ولا شك أنك أيها العقل وسيلة بين الحق والباطل، ولك القدرة على التمييز بين ما هو صواب وخطأ، وأنك تزود الإنسان بالأسباب والأدوات التي تؤدي إلي إدراك الأمور والقضايا، وتمييزها وتحليلها واختيار الأصوب والأصلح منها.
والخلاصة أنكما صنوان وكلاكما عون للآخر؛ فليدم الوئام والوفاق بينكما؛ حتى تزدهر الحياة، ويحلو العيش.
لخص أحد الشعراء هذه المناظرة والمساجلة فقال:
عِلم العليم وعقل العاقل اختلفا | من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا | |
فالعلم قال أنا قد حُزتُ غايته | والعقل قال أنا الرحمن بي عُرفا | |
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له | بأينا الله في تنزيله اتصفا | |
فأيقن العقل أن العلم سيده | وقبل العقل رأس العلم وانصرفا | |