من الآيات التي تناولت بعضاً من أحكام فريضة الحج قوله عز وجل: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} (الحج:28) فألمعت الآية الكريمة إلى أن في الحج منافع، وأرشدت إلى ذكر الله عند تقديم الهدايا تقرباً إلى الله تعالى، ووجهت المقربين لهذه الهدايا إلى الأكل منها، وإطعام الفقراء البائسين. وفي الوقفات الآتية مزيد بيان للمراد من هذه الآية.
الوقفة الأولى: بعد أن أمر سبحانه بالإعلام بفريضة الحج، في قوله {وأذن في الناس بالحج} (الحج:27) أتبع ذلك ببيان الغرض من هذه الفريضة، فقال عز وجل: {ليشهدوا منافع لهم} أي: ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم؛ إذ يحصِّل كل واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب. فكُني بشهود المنافع عن نيلها. ولا يُعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد؛ ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.
هذا، وتنكير {منافع} للتعظيم، والمراد منه الكثرة، وهي المصالح الدينية والدنيوية؛ لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاجِّ، ولمجموعهم؛ لأن في الاجتماع صلاحاً لهم في الدنيا بالتعارف والتعامل والتعاون.
الوقفة الثانية: قوله عز من قائل: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} المراد بذكر {اسم الله} ذكر التسمية عند الذبح والنحر، مثل: باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل القول عند الذبح {صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162). وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبيَّن سبحانه أن الواجب الذبح على اسم الله. وخُص من (المنافع) أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذلك هو النحر والذبح للهدايا. واللفظ مجمل في الهدايا الواجبة والمتطوعَّ بها، وتفصيله في فقه الحج. قال ابن عاشور معلقاً على قوله سبحانه: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}: "هذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة، وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها، وفي ذلك سدٌّ لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم، ولذلك فرَّع عليه بقوله: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}.
الوقفة الثالثة: الأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها، ويذكر عليه اسم الله فيها، للعلماء فيها أقوال كثيرة، والمعول عليه منها اثنان؛ لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات هي أيام النحر، بدليل قوله سبحانه: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وذكرهم الله عليها يعني: التسمية عند تذكيتها. فاتضح أنها أيام النحر، والقولان المعول عليهما دون سائر الأقوال الأخرى، أحدهما: أنها يوم النحر، ويومان بعده، وعليه فلا يُذبح الهدي في اليوم الأخير من أيام منى، الذي هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة. قال ابن عاشور: "والأيام المعلومات أجملت هنا؛ لعدم تعلق الغرض ببيانها؛ إذ غرض الكلام ذكر حجِّ البيت، وقد بُيِّنت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} (البقرة:203)".
الوقفة الرابعة: وأيام النحر عند جمهور أهل العلم ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، روي ذلك عن أبي هريرة، وأنس بن مالك رضي الله عنهما من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة بعده، وروي ذلك عن عليٍّ، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم. ورويَ عنهم أيضاً مثل قول الجمهور. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى. وأجمعوا على أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين. والآخر: قول الشافعي، والشاميين، وهذان القولان مرويان عن الصحابة، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة، ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك.
الوقفة الخامسة: ظاهر القرآن يدل على أن التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات، إنما هو الهدايا لا الضحايا؛ لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى (الأذان) بالحج {وأذن في الناس بالحج} (الحج:27)، حتى يأتي المضحون مشاة وركباناً، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر، ومن هنا ذهب مالك، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان، فهو يجعله هدياً لا أضحية. وأن من حِكَمِ (الأذان) في الناس بالحج، ليأتوا مشاة، وركباناً تقربهم إلى ربهم بدماء الأنعام، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها.
الوقفة السادسة: قوله سبحانه: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم} أي: ليشكروا الله على نحر وذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ ليتقربوا إليه بدمائها؛ لأن ذلك تقوى منهم، فهو يصل إلى ربهم ،كما في قوله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (الحج:37) وقد بيَّن في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها؛ كقوله سبحانه: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} (الأنعام:121). وقوله تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} (الأنعام:119) وقد بين سبحانه في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الحرم المكي منسكاً تُراق فيه الدماء؛ تقرباً إلى الله، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله وحده.
الوقفة السابعة: الأيام المعدودات هي أيام التشريق التي هي أيام رمي الجمرات؛ يدل عليه قوله تعالى متصلاً به: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} (البقرة:203) وأن الأيام المعلومات هي أيام النحر، فيدخل فيها يوم النحر واليومان بعده، والخلاف في الثالث عشر، هل هو منها، وقد رجح بعض أهل العلم أن الثالث عشر منها. ورجح بعضهم: أنه ليس منها. فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات، واليومان بعده من المعلومات والمعدودات، واليوم الرابع من المعدودات فقط، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (الحج:28) لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذَبح إجماعاً.
الوقفة الثامنة: وقت وجوب هدي التمتع والقِران، ووقت نحره، هو يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة؛ لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) رواه البيهقي؛ ولذا لو مات المتمتع يوم النحر، قبل رمي جمرة العقبة، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته؛ لأنه لم يتم وجوبه. وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك، وهو قول أبي حنيفة، وجوزه الشافعي من حين يحرم بالحج، ومذهب أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف.
الوقفة التاسعة: قال النووي: في وقت ذبح الهدي طريقان: أصحهما: أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق، فعلى الصحيح لو أخر الذبح، حتى مضت هذه الأيام، فإن كان الهدي واجباً: لزمه ذبحه، ويكون قضاء، وإن كان تطوعاً فقد فات الهدي. قال الشافعي: فإن ذبحه كان شاةَ لحمٍ لا نُسكاً.
الوقفة العاشرة: الهدي الذي ليس بواجب هو هدي التطوع، وهو مستحب، فيستحب لمن قصد مكة حاجًّا أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرَّقه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مئة بدنة وهو قارن، ويكفي لدم القران بدنة واحدة، بل شاة واحدة، وبقية المئة تطوع منه. والتحقيق أن من أهدى إلى الحرم هدياً، وهو مقيم في بلده، ليس بحاجِّ ولا معتمرٍ، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي، كما هو ثابت في الصحيح.
الوقفة الحادية عشرة: قوله تعالى: {فكلوا منها} أَمْرٌ معناه الندب عند جمهور أهل العلم. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل. لكن دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك وجماعة من السلف والفقهاء أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله، واجباً كان أو تطوعاً. فإن أكل مما مُنِعَ منه، يغرم قدر ما أكل. وقد قال العلماء: كلُّ هدي جاز الأكل منه للمهدي، له أن يُطْعِمَ منه من شاء من الأغنياء والفقراء، وكلُّ هدي لا يجوز له الأكل منه، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم، وكره عندهم إطعام الذميين منه.
الوقفة الثانية عشرة: قوله عز وجل: {البائس} هو الذي أصابه البؤس، وهو ضيق المال، وهو الفقير، هذا قول جَمْعٍ من المفسرين. وفي الموطأ: في باب ما يُكره من أكل الدواب، قال مالك: "سمعت أن البائس هو الفقير". من أجل ذلك لم يُعطف أحد الوصفين على الآخر؛ لأنه كالبيان له، وإنما ذُكِرَ البائس مع أنَّ الفقير مُغْنٍ عنه؛ لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس؛ لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غيرَ مشعر بمعنى الحاجة، وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {البائس} الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، و{الفقير} الذي تكون ثيابه نقيَّة، ووجهه وجه غني. فعلى هذا التفسير يكون {البائس} هو المسكين، ويكون ذِكْرُ الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين.
الوقفة الأخيرة: قال في أضواء البيان: "إن ما يفعله كثير من الحجاج -الذين يزعمون التقرب بالهدي يوم النحر- من ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى، لا يقدر الفقراء على الوصول إليها، والتمكن منها، وتركها مذبوحة، ليس بقربها فقير ينتفع بها، وتضيع تلك الغنم بكثرة، وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار منى، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف، إن كل ذلك لا يجوز، وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة. ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك؛ لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة، وإضاعة للمال، وإفساد له باسم التقرب إلى الله، ودواء ذلك الداء المنتشر في منى أن يعلم كل مُهْدٍ: أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حين ذبحها أو يسلخها هو، ويحملها بنفسه أو بأجرة، حتى يوصلها إلى المستحقين؛ لأن الله يقول: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} (الحج:28) ويقول: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} (الحج:36) ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم، ولو اجتهد في إيصاله إليهم، لأمكنه ذلك؛ لأنه قادر عليه، وعلى من بسط الله يده أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء منى، وفجاج مكة، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها".