في السنة الخامسة للهجرة النبوية تداعت جُموع الشرك على المسلمين، واتجهوا نحو المدينة المنورة بجيش كبير بلغ عدده عشرة آلاف مقاتل مشرك مِنْ قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم بقيادة أبي سفيان يريدون القضاء على الإسلام والمسلمين.. والمسلمون حينئذ داخل المدينة المنورة في ظروف وأحوال صعبة، من عدد قليل، وأعداء كُثر، وجوع شديد، وبرد قارص، وعدد قليل، إضافة إلى غدْرٍ من اليهود، وتخويفٍ وإرْجافٍ من المنافقين، وقد وصف الله عز وجل حال المسلمين حينئذ بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(الأحزاب:11:9). قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين، في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح..". وقال السعدي: "{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} بهذه الفتنة العظيمة {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} بالخوف والقلق والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر - ولله الحمد - مِن إيمانهم، وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين".
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزحف الأحزاب إلى المدينة، وعزمها على حرب المسلمين، استشار أصحابه، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه اعتمادا على خبرته في حرب الفُرس، بحفر خندق حول المدينة، وقال: "يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا"، فوافقه وأقره النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بحفر الخندق حول المدينة.. وحينما اشتد الكرب على المسلمين، دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم على الأحزاب فاستجاب الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم، فهبت وأقبلت بشائر الفرج والنصر، ورجعت قريش والأحزاب خائبين منهزمين، وانفك الحصار، وعاد الأمن، وثبت المؤمنون، وانتصر الإيمان.. عن عبد الله بن أوْفى رضي الله عنه قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وزَلْزِلْهُمْ) رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (قُلْنا يومَ الخَنْدَق: يا رسولَ الله هل مِن شيءٍ نقوله، فقد بلغتِ القلوبُ الحناجِر؟! قال: نعم، اللهمَّ استُرْ عَوْراتِنا، وآمِنْ رَوْعاتِنا، قال: فضرب اللَّه وجوه أعدائه بالرِّيح، وهزمَهُمُ اللَّهُ بالرِّيح) رواه أحمد.
وفي غزوة الأحزاب (الخندق) الكثير مِنَ المواقف الجديرة بالوقوف معها والاستفادة مِنْ دروسها وعِبَرها، ومِن هذه المواقف موقف حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتوغل في صفوف المشركين ومعرفة أخبارهم.. عن إبراهيم التيمي عن أبيه يزيد بن شريك قال: (كنا عند حُذيفة فقال رجل: لو أدركتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قاتلتُ معه فأبليتُ ، فقال حذيفة: أنتَ كنتَ تفعل ذلك؟ لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقَرّ (برد شديد)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ فسكتنا فلم يُجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحَد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يُجبه منا أحد، فقال: قُم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بُدَّاً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ ، فلما وليتُ من عنده جعلتُ كأنما أمشي في حمام (الحمام مِن الحميم، وهو الماء الحارّ، والمعنى: أنَّه لم يَجدِ البَرْدَ الَّذي يَجِده الصحابة ولا مِن تلكَ الرِّيح الشَّديدةِ شَيئًا، بل عَافاه الله بِبركة إجابتِه لِلنَّبي وذهابه فيما وجَّهَه له) حتى أتيتُهم، فرأيتُ أبا سفيان يُصْلَيْ ظهره (يدفئه) بالنار، فوضعتُ سهماً في كَبَد القوس فأردْتُّ أن أرميه فذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم عليّ، ولو رميتُه لأصبتُه فرجعت، وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغتُ قرَرْتُ (أصابَني البَرْدُ الَّذي يَجِدُه النَّاس مرَّةً أُخرى والذي ذهب عنه أثناء مهمته)، فألبسني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن فضل عباءة كانت عليه يُصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت ، فلما أصبحتُ قال صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان ) رواه مسلم.
وفي هذا الموقف والحديث: فضْلُ حُذيْفة بن اليمان رضي الله عنه، وتَشريفه بلُبسِ عَباءة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه: تَواضُع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحكمته وفِراسَته، وفيه: آية ومعجزةٌ مِن آياته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث لم يُصِب حُذيفة رضي الله عنه مِن القرِّ وبَرْدِ تلك الرِّيح شَيءٌ ببركة إجابة حُذيفة لأمره صلى الله عليه وسلم، ثمَّ لَمَّا رجَع وأخْبره بخبر القوم أصابه البردُ الذي كان يَجِده الناس..
راوي هذا الموقف والحدث من غزوة الأحزاب (الخندق) هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي قال عنه الذهبي في "سِيَر أعلام النبلاء": "هو حذيفة بْن اليمان، مِنْ نجباء أصحاب مُحمد صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب السِر.. له في الصحيحين اثنا عشر حديثا، وفي البخاري ثمانية، وفي مسلم سبعة عشر حديثا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أسَّرَّ إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأمة، وقد ناشده عُمر: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك. وحذيفة هو الّذي ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو.. ومناقبه تطول رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.. قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني".
لقد أظهرت قصة وموقف حذيفة رضي الله عنه في غزوة الأحزاب معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حيث اختار حُذيفةَ ليقوم بمهمة صعبة في ظروف شديدة، وهي التجسس على الأحزاب، ولا يقوم بهذا العمل إلا مَنْ كان صاحب شجاعة نادرة، ذكي خفيف الحركة، سريع التفكير في المآزق الحرجة، وكان صلى الله عليه وسلم يختار لكل مهمة مَنْ يناسبها من أصحابه، فيختار للقيادة في الحرب من يجمع بين سداد الرأي وحُسن التصرف والشجاعة كخالد بن الوليد رضي الله عنه، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين العلم وحسن الخُلق والرفق والمهارة في اجتذاب الناس كمصعب بن عمير رضي الله عنه، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء مَنْ يجمع بين حُسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة كعبد الله بن حُذافة رضي الله عنه، وفي الأعمال الصعبة الشديدة يختار مَن يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب، والمقدرة على التحكم في المشاعر والتصرف في الأزمات كحذيفة وعبد الله بن أنيس رضي الله عنهما، ولا شك أن معرفة خصال الرجال ومعادنهم تدل على حكمة ومعرفة واسعة..
ومِنْ خلال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه للتواجد داخل جيش المشركين يظهر لنا أهمية الاستطلاع في الحروب، وذلك مِن قوله صلى الله عليه وسلم ـ: (ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فاتنا بخبر القوم). قال النووي: "في هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو والله أعلم".. وكذلك أظهرت قصة وموقف حذيفة رضي الله عنه حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وحرصه عليهم، وتلطفه بهم، فهو صلى الله عليه وسلم كما قال عنه ربه عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128). وظهر ذلك الحب في قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه: (ولا تذعرهم عليّ). قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ) هو بفتح التاء وبالذال المعجمة معناه: لا تفزعهم عليَّ، ولا تحركهم عليَّ، وقيل معناه لا تنفرهم وهو قريب من المعنى الأول، والمراد لا تحركهم عليك فإنهم إن أخذوك كان ذلك ضررا عليَّ لأنك رسولي وصاحبي".. ولما رجع حذيفة رضي الله عنه مِنْ هذه المهمة الصعبة ألبسه النبي صلى الله عليه وسلم عباءة كانت عليه يصلي فيها، فنام حذيفة رضي الله عنه مِن شدة تعبه حتى صلاة الفجر، فأيقظه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة متلطفا به ومداعباً له قائلا: (قُمْ يا نومان) أي يا كثير النوم..
ومِنَ الفوائد العظيمة مِنْ موقف حذيفة رضي الله عنه في غزوة الأحزاب: وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره، وإنْ خالف ذلك العقل أو كرهته النفوس، إذ قام حذيفة رضي الله عنه مطيعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ظروف بالغة الصعوبة والشدة.. وكذلك امتناعه رضي الله عنه عن قتل أبي سفيان وقد كان يستطيع ذلك، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال رضي الله عنه: (فرأيتُ أبَا سفيان يَصْلِي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته).. وهذه الطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم تجلب لصاحبها البركة والهداية، والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(النور:54)، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(الأحزاب:71).. قال النووي في قول حذيفة رضي الله عنه: (فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم) يعني: أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس، ولا من تلك الريح الشديدة شيئا، بل عافاه الله منه ببركة إجابته للنبي صلى الله عليه وسلم وذهابه فيما وجهه له، ودعائه صلى الله عليه وسلم له، واستمر ذلك اللطف به ومعافاته من البرد حتى عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع ووصل عاد إليه البرد الذي يجده الناس، وهذه من معجزات رسول الله ـصلى الله عليه وسلم"..
السيرة النبوية زاخرة بالدروس والعِبر، وذلك لما حوته من غزوات وأحداث ومواقف في حياة نبينا صلى الله عليه وسلم.. ولأهمية السيرة النبوية كان الصحابة وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم يعلمونها لأولادهم، فكان زين العابدين بن علي بن الحسين يقول: "كنا نُعلَّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن". وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه، ويقول: يا بَنِّي هذا شرف آباءكم أو هذه مآثر آباءكم فلا تضيعوها". وقال الحافظ الخطيب البغدادي: "تتعلق بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام كثيرة، فيجب كتابتها والمحافظة عليها"..وقد كانت غَزوة الأحزاب شديدة الوقع على المسْلِمين، فقدِ اجتمع عليهم الكفَّارُ واليهود ومَن تابَعَهم وحاصَروا المدينة، واضْطُرَّ المسْلِمون إلى حَفرِ خَندقٍ حوْل المدينة لحِمايتها، فاجتَمَعَت هذه الشَّدائد وغيرها على المسْلِمين، ومع ذلك صَبَروا وثبتوا وكان للصحابة رضوان الله عليهم مواقف مضيئة ـ مثل موقف حذيفة ـ، حتَّى أنزل الله تبارك وتعالى نصره، وهزم الأحزاب وحده، وأعزّ جنده، وردّ الكفرة بغيظهم، ووقى المؤمنين شرّ كيدهم، وحرّم عليهم أن يغزوا المؤمنين بعدها، بل جعلهم المغلوبين، وجعل حزبه هم الغالبين..
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية