الإمام محمد بن إدريس الشافعي القرشي ثم المطلبي، فقيه الملة وناصر السنة ومجدد القرن الثاني، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، مرجع أهل العلم في زمانه ومن بعده.
ملأ الدنيا علماً وَاجْتِهَادًا، وجمع حوله أفذاذ طلاب العلم في مكة ومصر والعراق، وامتلأت القلوب بحبه وإجلاله والاعتراف بإمامته لما كان يتمتع به - رَحِمَهُ اللهُ - من علم غزير ومنطق نادر وذكاء عجيب وذهن نافذ إلى لب الحقائق، وإحاطة واسعة بكتاب الله وَسُنَّةِ رسوله، وعلوم اللغة وآدابها.
رحل إلى مالك بن أنس في المدينة ولازمه وأخذ عنه الفقه والعلم، كما رحل إلى العراق ثلاث مرات فأخذ الفقه والعلم، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، وتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره.
وتواترت أخباره بين علماء عصره، وبلغ في الفقه والاستنباط وقوة الحجة درجة تدعو إلى الدهشة والإكبار حتى نال -بكل جدارة- لقب "ناصر السُّنَّة"، وحتى قال الإمام أحمد بن حنبل: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث.
انتشر مذهبه بسبب كثرة ترحله وكثرة من حمل العلم عنه وجمعه بين طريقة المحدثين وطريقة الفقهاء.
كان آية في دقة الاستنباط، وإقامة الحجة، وقوة البرهان، والدليل، كما كان ذا فصاحة وبلاغة وبيان وحسن أدب. وجمع بين فقه الحجازيين والمصريين والعراقيين.
مولده ونشأته
وُلد الشافعي بغزة سنة 150هـ، وغزة ليست موطن آبائه، وإنما خرج أبوه إدريس إليها في حاجة، فمات هناك، وولد له ابنه محمد، وأبوه قرشي مطلبي؛ فاسم الإمام الشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان، بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، فهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
والمطلب الذي ينتهي إليه الشافعي هو أحد أولاد عبد مناف الأربعة، المطلب، وهاشم، وعبد شمس، ونوفل، ولم يفارق بنو المطلب بني هاشم في الجاهلية ولا في الإسلام.
وبعد سنتين من ميلاده حملته أمه إلى موطن آبائه (مكة)، وبها نشأ يتيماً في حجر أمه، فحفظ القرآن صغيراً، وهو ابن سبع سنين، وَجَوَّدَهُ على مقرئ مكة في ذلك الحين إسماعيل بن قسطنطين ثم خرج إلى هذيل بالبادية فحفظ كثيراً من شعرهم، ونقل الفخر الرازي وغيره في مناقب الشافعي قول: "إنني خرجت من مكة فلازمت هذيلا بالبادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبيعتها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة، جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب والأخبار" حتى قال الأصمعي فيه:"صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس".
وتعلم أثناء إقامته في البادية الرماية، وأثر عنه أنه كان يجيدها، ثم عاد ولزم مسلم بن خالد الزنجي، وهو شيخ الحرم ومفتيه، وقد قال له شيخه - وهو ابن خمس عشرة سنة -: (أفتِ يا أبا عبد الله، فقد - والله - آن لك أن تفتي) .
ثم طلب الشافعيّ من شيخه أن يكتب له إلى مالك بن أنس - إمام دار الهجرة، ومحدثها - فكتب له، فرحل إلى المدينة، حتى أتى مالكاً، وكان قد حفظ الموطأ، فقرأه عليه، وكان مالك يعجب بقراءته.
اكتسب الشافعي خلال هذه الفترة فقه مسلم بن خالد، وحديث إمامين عظيمين، إليهما انتهى حديث أهل الحجاز وهما: سفيان بن عيينة في مكة، ومالك بن أنس في المدينة.
قدم الشافعي العراق ثلاث مرات:
* المرة الأولى عام 184 هـ، حيث حمل - بأمر الرشيد - إلى العراق بتهمة التشيع، وفي هذه القَدْمة اختلط الشافعي بفقهاء العراق، واطلع على طرائقهم، والتقى بمحمد بن الحسن الشيباني (صاحب أبي حنيفة - رحمه الله -) ، وله مناظرات معه، اطلع الرشيد على بعضها فسُر بها وأعجب بها وأكثر هذه المناظرات موجود في كتب الشافعي.
* ثم عاد إلى الحجاز، وبقي بمكة مدة، ثم عنَّ له أن يقدم العراق ثانية، وكان ذلك عام 195هـ، بعد أن مات الرشيد، وفي هذه المرة كان … صيته قد ذاع وانتشر، ولُقب (بناصر السنة) وعظمت منزلته حتى انضم إليه جماعة من العلماء، وصاروا يأخذون عنه، وتركوا ما كانوا عليه من طرائق سابقة، وهناك أملى عليهم كتبه التي كتبها في مذهبه القديم، وأقام سنتين، ثم عاد إلى الحجاز.
* وفي عام 198هـ قدم العراق للمرة الثالثة، ولم يلبث إلا أشهراً ومن هناك سافر إلى مصر، فدخلها سنة 199هـ، " فأقام بها إلى أن مات، يعلم الناس السنة وفقه السنة والكتاب.
نقطة تحول الشافعي من الشعر والأدب إلى الفقه
يقول الشافعي نفسه: ثم انتقلت بعد ذلك من مكة إلى قبيلة هذيل لأتعلم منها اللغة العربية، فلقد كانت قبيلة هذيل أفصح العرب بياناً ولغة وكلاماً، يقول: فرجعت بعد ذلك إلى مكة لأردد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فلقيني رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليَّ ألا يكون مع هذه البلاغة والفصاحة والذكاء فقه.
يقول الشافعي: فقلت له: فمن من العلماء نقصده لطلب الفقه؟ يقول الشافعي: فقال لي هذا الرجل: تقصد سيد المسلمين مالك بن أنس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: فوقعت هذه القولة في قلبي فذهبت إلى رجل من أهل مكة علمت أنه يحوي عنده موطأ الإمام مالك، يقول: فذهبت إليه واستعرت منه الموطأ وعكفت عليه، فحفظت الموطأ عن ظهر قلب في تسع ليالٍ، حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ لا في تسع سنين، يقول: فلما انتهيت من حفظ الموطأ أخذت رسالة من والي مكة ومن شيخي وذهبت إلى الإمام مالك.
وقال بإيجاز شديد: وصلت إلى الإمام مالك فلما كلمته، وأعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، قال مالك لهذا: يا غلام! ما اسمك؟ قال: محمد.
فقال: مالك: يا محمد! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل.
ولبث الإمام الشافعي في المدينة المنورة ملازماً لشيخه ملازمة الظل لصاحبه حتى توفى الله مالكاً رضي الله عنه.
بين الإمام أحمد والإمام الشافعي
كان للشافعي حلقة في مسجد الله الحرام، جمعت إليه الناس ولفتت إليه الأنظار، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً عجيباً، حتى إن الإمام أحمد إمام أهل السنة جاء حاجاً من بغداد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة شرفها الله، فترك الإمام أحمد حلقة شيخ الشافعي سفيان بن عيينة، وعكف على حلقة الشافعي، بل ولم يكتفِ الإمام بهذا، إنما ذهب إلى صاحبه إسحاق بن راهويه وقال: تعال يا إسحاق أريك رجلاً بـ مكة ما رأت عيناك مثله، يقول إسحاق: فأراني الشافعي.
أُعجب الإمام أحمد بذكاء وعلم الشافعي إعجاباً رهيباً، لأنه يسمع أصولاً وقواعد لأول مرة يسمعها وغيره من أهل العلم، فإن أول من أصَّل الأصول وقعد القواعد هو الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال أحمد قولته الخالدة الجميلة: لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث، وقال: كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بـ الشافعي، وقال: ما من أحد مس محبرة ولا قلماً بعد الشافعي إلا وله في عنقه منّة، وقال: والله ما أعلم أحداً أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي.
وعن محمد بن مسلم بن واره قال: قدمت من مصر فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه فقال: كتبت كتب الشافعي قلت: لا، قال: فرطت، ما علمنا المجمل من المفصل، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي قال: فحملني ذلك إلى أن رجعت إلى مصر وكتبتها ثم قدمت.
وقال أبو بكر الصومعي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي.
عن ميمون بن مهران قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما لك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب أتبع للسنة من الشافعي.
كان الأمام أحمد كثيرا ما يدعو للشافعي مما دفع ابنه عبد الله لسؤاله عن سبب دعائه له، فأجابه: لقد كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فانظر هل لهذين من خلف.
ناصر السنة
كان رحمه الله يقول: إذا وجدتم سنة صحيحة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد.
وكان يقول: كل مسألة تكلمت فيها، وصح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وسأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال الشافعي: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: يا هذا! أرأيت في وسطي زناراً -والزنار كان من لباس أهل الذمة، مشروط عليهم لبس الزنار، ولا يلبسوا عمائم المسلمين- أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟
وكان يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم أقل به.
وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال: وقال له رجل: يا أبا عبد الله نأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وكان رحمه الله تعالى يعلق القول في كثير من الأحيان على ثبوت الحديث، فكان يقول مثلاً: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به.
حتى أن بعض العلماء ألف كتاباً سماه: المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة، والمؤلف هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
كان الشافعي يوصي بالحديث وبأصحاب الحديث، يقول: "عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر صواباً من غيرهم".
أول من وضع علم أصول الفقه
اعتبر الشافعي بحق أنه مجدد المائة الثانية الهجرية فهو أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، وقد تسابق العلماء والأكابر على اقتناء مصنفاته والاستفادة منها، وأعظم كتبه كتاب (الرسالة)، فقد رأى أن أصول الآراء ليست مضبوطة عند الفقهاء قبله، وكان يتطرق إليها الخلل بسبب ذلك؛ فوضع أصول الفقه، ودوّن كتاب (الرسالة)
وأسلوب الرسالة في غاية السهولة واليسر والفصاحة، فهي على سهولة لفظها كثيرة المعاني عظيمة المباني، شاهدة برجاحة عقله وكمال بصيرته.
وعن أبي ثور قال: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن والأخبار وحجة الإجماع والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب (الرسالة).
قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها.
وعن المزني قال: قرأت كتاب الرسالة للشافعي (500) مرة، ما من مرة منها إلا واستفدت منها فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى.
واهتم العلماء " بالرسالة " وحرصوا على اقتنائها ودرسها قديماً وحديثاً.
وتجمع المصادر على أن الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، فلم يسبقه أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها، ويرى فخر الدين الرازي، أن الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للناس قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.
واعتبر الزركشي أن أول من صنف في أصول الفقه هو الشافعي، بكتب «الرسالة»، و«أحكام القرآن»، و«اختلاف الحديث»، و«إبطال الاستحسان»، و«جماع العلم»، و«القياس» الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثمّ تبعه المصنّفون في الأصول، واعتبر ابن عقيل الحنبلي، الشافعي أبا علم أصول الفقه، وكذلك ابن خلدون المالكي، يعتبره أول من كتب في هذا العلم.
من أخلاق الإمام الشافعي في الخلاف
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي - ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى؛ ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
يعني: على الرغم من خلافي معك في مسألة من مسائل العلم، فإن الواجب أن تظل أخوتنا، ومودتنا، ولا يعادي بعضنا بعضاً بسبب اختلافنا في مسألة من مسائل العلم.
وهو صاحب المقولة الشهيرة «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» وهي قاعدة جميلة ترسم المنهج الصحيح في التعامل مع آراء الآخرين واجتهاداتهم، وهي قاعدة من سار عليها اتسع عقله في التعامل مع المواقف والآراء.
عبادته وزهده وورعه
قال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت أتقى لله ولا أورع من الشافعي، ولا أحسن صوتاً منه بالقرآن.
وعن الحسين الكرابيسي قال: بت مع الشافعي ثمانين ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل، وما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المؤمنين، فكأنما جمع له الرجاء والرحمة معاً.
وعن بحر بن نصر قال: كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة من حسن صوته.
وعن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، يعني: الحديث، والثلث الثاني: يصلي، والثلث الثالث: ينام.
وعن الربيع قال: قال عبد الله بن عبد الحكم للشافعي: إن عزمت أن تسكن البلد -يعني: مصر- فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزز به، فقال له الشافعي: يا أبا محمد من لم تعزه التقوى فلا عز له، ولقد ولدت بغزة، وربيت بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة وما بتنا جياعاً.
وقيل للشافعي: ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، يعني: في الدنيا.
وعن الربيع بن سليمان قال: قال لي الشافعي يا ربيع! عليك بالزهد، فللزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد.
الشافعي والشعر
الإمام الشافعي علم من أعلام العربية الكبار وأستاذ من أساتذتها العظام في جميع علومها وفنونها من بلاغة وفصاحة وعروض ونحو وصرف وقافية وأدب وعلم وبيان، فضلا على أن له القدم الراسخة في علوم القران الكريم والحديث النبوي الشريف والفقه وأصوله.
لحق صغيرا بقبيلة هذيل العربية لتعلم اللغة والفصاحة، وكانت هذيل أفصح العرب، ولقد كانت لهذه الملازمة أثر في فصاحته وبلاغة ما يكتب، وقد لفتت هذه البراعة أنصار معاصريه من العلماء بعد أن شب وكبر، حتى الأصمعي وهو من أئمة اللغة المعدودين يقول:(صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس)
يتميز شعرُ الامام الشافعي أنه لم يكن يَقصد منه التكسُّبَ أو التقربَ إلى أصحاب المال والجاه والسلطان، بالإضافة إلى أنه كان شعره في أغلبه يتناول الحكمة والعلم والتجارب والنصيحة وبيان الرأي والإقناع واشتمل على كثير من الأغراض والميادين التي يعايشها الإنسان في أطواره وأفعاله وأحواله المختلفة.
مثل مناجاة الخالق، والدعاء والاستغفار والتندم على المعاصي، ولذلك انتشر شعره بين الناس، ولا يزال شعره متداولاً بين الناس في حياتهم اليومية.
كما تميز شعره بقوة الجملة وسهولتها وسلاستها ووضوحها وما يريد إيصاله للمتلقي يصل دونما فلسفة أو تعقيد أو تغريب.
من جميل شعره
دع الأيّام تفعل ما تشاءُ | وطب نفساً إذا حكم القضاءُ | |
ولا تجزع لحادثة الليالي | فما لحوادث الدنيا بقاء | |
أحب الصالحين ولست منهم | لعلي أن أنال بهم شفاعة | |
وأكره من بضاعته المعاصي | وإن كنا جميعًا في البضاعة | |
وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ | كما أن عين السخط تبدي المساويا | |
ولست بهياب لمن لا يهابني | ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا | |
ما في المقام لذي عقل وذي أدب | من راحة فدع الأوطان واغترب | |
سافر تجد عوضاً عمّن تصاحبه | وانصب فإن لذيذ العيش في النّصب | |
إني رأيت وقوف المال يفسده | إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب | |
إذا ما ضاق صدرك من بلاد | ترحّل طالباً أرضاً سواها | |
عجبت لمن يقيم بدار ذلّ | وأرض الله واسعة فضاها | |
فذاك من الرّجال قليل عقل | بليد ليس يعلم ما طحاها | |
تغرب عن الأوطان في طلب العلا | وسافر ففي الأسفار خمس فوائد | |
تفرّج هم واكتساب معيشة | وعلم وآداب وصحبة ماجد | |
لما عفوت ولم أحقد على أحد | أرحت نفسي من همّ العداوات | |
إني أحييّ عدوي عند رؤيته | لأدفع الشرّ عني بالتحيّات | |
يخاطبني السفيه بكل قبح | فأكره أن أكون له مجيبا | |
يزيد سفاهة فأزيد حلما | كعود زاده الاحراق طيبا | |
أخي لن تنال العلم إلا بستة | سأنبيك عن تفصيلها ببيان | |
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة | وإرشاد أستاذ وطول زمان | |
وفاته
توفي الإمام الشافعي رحمه الله تعالى رضي الله عنه بمصر ليلة الجمعة بعد أن صلّى العشاء، آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين هجرية، ودفن بعد عصر الجمعة، وهو في الرابعة والخمسين من عمره .
نام الشافعي على فراش الموت بعد ما اشتد به المرض، ودخل عليه تلميذه المزني ليقول له: كيف أصبحت؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ووالله لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، وبكى الشافعي رضي الله عنه، ونظر إلى السماء وناجى ربه جل وعلا وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي | جعلت الرجا مني لعفوك سلما | |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك | ربي كان عفوك أعظما | |
ما زلت ذا عفوٍ عن العبد لم تزل | تجود وتعفو منةً وتكرما | |
فرحم الله الشافعي رحمة واسعة، وجزاه الله عنا وعن المسلمين والإسلام خير الجزاء.