وفاة الشيخ المجاهد "عبد الحميد بن باديس" في 8 ربيع الأول 1359هـ(1940م):
الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الإسلامية في الجزائر، ومؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كان رحمه الله أمة وحده، عاملاً على نشر العربية والإسلام، ولقي في سبيل ذلك الكثير من الأذى، فما كلَّ ولا ملَّ ولا استسلم حتى فارق الحياة
نجحت دعوته في إحياء الروح العربية الإسلامية في الجزائر، وفجرت طاقات الجهاد في النفوس ونبَّهت الغافلين، وتجمَّعت لديه خصائص مكَّنته من القيام بجلائل الأعمال، فكان متضلعًا في علوم التفسير والحديث والفقه، مُلمًا بمشكلات مجتمعه، مؤثرًا في غيره، سمحًا متواضعًا، شجاعًا صارمًا في الحق.
ولد وفرنسا تحتلّ البلد منذ 60 سنةً آنذاك و تعمل بكلّ وسيلة على استئصال الإسلام واللغة العربية بالاعتماد أساسا على منع التعليم ونشر الخرافات وإضفاء "الفرنسة" على كل نواحي الحياة التربوية والاجتماعية والسياسيّة.
عاش أقلّ من واحد وخمسين سنةً فقط، لكن الله - تعالى - بارك له فيها ووفّقه إلى أعمال جليلة أبقت للجزائر إسلامها وعربيّتها وردّت لها استقلالها بعد أن احتلّتها الجيوش الفرنسية وظلّت مستعمرة مدّة 132 سنةً.
تعليم الامة كان هو غايته الحقيقية، وإحياء الروح الاسلامية هو هدفه السامي، وبث الأخلاق الاسلامية هو شغله الشاغل، وقد آتت دعوته ثمارها، فتحررت الجزائر من براثن الاحتلال الفرنسي بعد وفاته من خلال الجيل الذي شارك في صناعته وصياغته هو ورفاقه.
اسمه
هو " عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس "، ولد في مدينة " قسنطينة" بـ " الجزائر سنة 1308هـ، الموافق عام 1889م، وقد عرفت أسرة "ابن باديس" بالعلم والفضل منذ القدم فهي ترجع في أصلها إلى "المعز بن باديس الصنهاجي" مؤسس الدولة "الصنهاجية الأولى" الذي قاوم بدع الفاطميين ودحرها، ونصر السنة وأظهرها، فأزال مذهب الشيعة الباطنية، وأعلن مذهب المالكية في الفقه مذهبًا للدولة، وبالتالي انفصل عن الدولة الفاطمية بمصر، وكان ذلك في حدود سنة404 هـ، وقد توفي المعز لدين الله بن باديس في حدود سنة 405 هـ.
نشأته :
اشتُهرت أسرته بالعلم والتدين، أرسله والده إلى المدارس الدينية فحفظ القرآن وتعلم تجويده وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة على الشيخ محمد المداسي، فنشأ منذ صباه في رحاب القرآن فشب على حبه والتخلُّق بأخلاقه وكان من مشايخه المؤثرين به بعد ذلك الشيخ حمدان الونيسي الذي كان يدرس النحو والحساب والأدب العربي والفقه والتوحيد بالجامع الكبير بقسنطينة.
ذهب بن باديس إلى تونس واستقر في جامع الزيتونة عام 1908م حيث أخذ ابن باديس العلم من أساتذة وشيوخ بارزين كان لهم الأثر البالغ في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي من أبرزهم محمد النخلي والخضر بن الحسين ومحمد الطاهر بن عاشور والبشير صفر وتخرج من الزيتونة عام 1911م.
عاد ابن باديس إلى الجزائر وبدأ يعلم الطلاب و يثقف العامة و يخطب في الناس و يكتب في الصحف.
الاختيار الصعب
ثم سافر بعدها إلى البقاع المقدسة للحج سنة 1912م، ومكث في المدينة المنورة لاستكمال رحلته في طلب العلم، فطاب له المقام وقرر البقاء فيها، والتقى هناك بشيخه حمدان الونيسي الذي هاجر إلى المدينة فرارا من اضطهاد الفرنسيين له والتقى محمد البشير الإبراهيمي وتوطدت صلتهما وتدارسا كثيرا أمر الاحتلال الفرنسي وطرق التخلص منه، كما التقى بالشيخ حسين أحمد الهندي الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر وخدمة الإسلام والعربية فيها بقدر الإمكان.
فاستجاب ابن باديس لنصيحته وقرر العودة وطاف في طريق العودة بالشام ومصر والتقى دعاة الإصلاح، ولم يرجع إلى الجزائر إلاّ وهو شعلة متّقدة من الرغبة في خدمة دينه ولغته وبلده
كان اختيار الرجوع إلى الجزائر من أصعب الاختيارات التي اختارها رحمه الله تعالى، ذلك حين لقي شيخه حمدان الونيسي الذي علمه لما كان صغيرا في أرض الحجاز فقال له: «ابق هنا في الحجاز». وقال له الشيخ حسين أحمد الهندي الذي درس عنده هناك: «ارجع إلى بلدك لخدمة الدين والعربية بقدر الإمكان».
قال الشيخ ابن باديس مبينا اختياره :" فحقق الله رأي الشيخ الثاني فرجعنا إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مدعماتها في هذا الوطن"
برنامج الإصلاح :
عاد ابن باديس من الحجاز في عام (1913م) و بدأ جهوده الاصلاحية بإلقاء دروس في تفسير القرآن بمساجد قسنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثه العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه كاملا بعد خمسة وعشرين عاماً، فاحتفلت الجزائر بختمه في (31 من ربيع الآخر 1357 هـ - 21 من حزيران 1938 م).
ثم بدأ يسافر إلى المدن والقرى واضعاً لذلك برنامجاً منظماً، فصال وجال في الجزائر العاصمة، وفي تلمسان، ثم وهران.
ولم تمض سنوات خمس حتى بلغ أتباعه ومريدوه في عام (1918م) قرابة ألف شاب، وبهذه اللبنة انطلق الرجل للبناء، فحوّل الألف شاب إلى كتائب تنطلق لتعليم بقيّة الأمة الجزائرية.
أهمية التعليم
وبدأ الرجل يصنع معجزة على أرضه على الرغم من محاربة فرنسا للتعليم وإقفالها المدارس، إلا أنه استطاع أن يكسر هذا الحاجز وينشئ بأقل الإمكانيات، وبما هو متاح منها عشرات المدراس الأهلية المتفرقة في أنحاء المدن والبلاد.
ويعد الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضاً، وتطرقت إلى إصلاح التعليم وتطوير مناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الاخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتباً للتعليم الابتدائي في مسجد سيدي بو معزة، ثم انتقل الى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية.
ثم تطور المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ – 1931م) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس. وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نص على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجاناً.
جدير بالذكر أن الشيخ أولى عنايةً خاصة لتعليم المرأة رغم وطأة الأعراف والتقاليد، وجعل للبنات صفوفاً خاصة في نفس قسم البنين في مدارس الجمعيّة وفي معهد ابن باديس الثانوي بقسنطينة، كما أن مجلس إدارة جمعية العلماء كان يضم امرأة هي السيدة فاطمة غراب، وغني عن البيان أن هذا كان جرأة كبيرة آنذاك لا تتقبلها الذهنيات ولكنه سبق له دلالته.
وركز على إعداد المرأة المسلمة للقيام بوظيفة تربية الأجيال فيشير إلى ذلك بقوله: "إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً، فعلينا أن نكوِّن أمهات متدينات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات ، وتربيتهن تربية إسلامية، وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل فمحال أن نرجو منهن أن يكوّنوا لنا رجالا عظماء ".
أهمية الصحافة
أدرك ابن باديس أهمية الصحافة باعتبارها من أهم وسائل وأدوات العصر لنشر أفكاره الإصلاحية بين قطاعات الشعب المختلفة فإلى جانب الدروس والمحاضرات والخطب اتخذ من الصحافة منبرًا آخر لبيان المفاهيم الإسلامية الصحيحة، فقد شارك ابن باديس في تأسيس جريدة "النجاح" ، ثم جريدة "المنتقد" ثم أسس جريدة "الإصلاح"، كما اشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل السنة والصراط والبصائر و الشهاب كما أسس أيضًا "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" سنة 1931 وكان رئيسًا لها
"جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" :
وتأسست الجمعية بعد احتفال عملاء الاحتلال بمضي قرن على احتلال الجزائر فكان ذلك رداً عملياً على المحتفلين الذين كانت أصواتهم تردد الجزائر فرنسية وكان شعار العلماء المصلحين "الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا"
في عام (1926م) أنشأ العلماء الجزائريون «نادي الترقي» ليكون ملتقى فكرياً لهم... ولم يقتصر النادي على زمرة بعينها، أو جماعة محدّدة، وإنما كان مفتوحاً لكل وطني يريد أن يشارك في بناء لبنة من لبنات الوحدة الوطنية الجزائرية، التي طالما حاول الفرنسيون تفتيتها.
وعندما أصبح النادي ملتقى لأهل الفكر في الجزائر، توجه عبد الحميد بن باديس إلى رواد النادي بالمحاضرات، ودروس التفسير.
وفي خلال أربع سنوات من عام (1926م) إلى عام (1930) أصبح النادي ذا ثقل ثقافي وتأثير جدي.
وكان عام (1930) ذكرى مأساة احتلال الفرنسيين للجزائر... حيث أراد المحتل لهذه المناسبة احتفالاً كبيراً تشارك فيه كل فرنسا، من أكبر مسؤول إلى رجل الشارع.
اعتمدت فرنسا لبلوغ هدف طمس الهوية على عنصرين هما:
1- منع التعليم عن عموم الشعب والاستفادة من حالة الجهل والأمّيّة لتغيير التاريخ وتغييب حقائق الشخصيّة الجزائريّة.
2- تكوين نخبة جزائريّة متشبّعة بالقيّم الفرنسية تتنكّر للأصالة وتصنع للجزائريين حلماً يراودهم هو الحصول على مزايا فرنساٍ إذا برهنوا أنّهم في مستواها ويستحقّونها.
في هذه اللحظات كان لا بدّ من خطوة للأمام، وبعد الاحتفالات، وفي عام (1931) في شهر مايو أنشأ العلماء الجزائريون في ناديهم نادي الترقي«جمعية العلماء المسلمين الجزائرية».
ومن الطبيعي أن يترأسها الإمام عبد الحميد بن باديس، وقد انتمى إلى الجمعية علماء على رأسهم، الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ العربي التبسي ومبارك الميلي.
لذلك كانت هموم الجمعية، واهتماماتها، وأهدافها تتركز على ثلاثة جوانب:
1- العقيدة، واستخدامها في ميدان جهادي صعب مثل ميدان الجزائر، الذي أصابه الإحباط من جراء هجمات تبشيرية عنيفة، ووضع الصوفية في البلد الذي له طابع البدع والاستسلام.
2- إن عملية التعريب كانت هي التحدي الأكبر الذي يواجه العلماء، وتحقيقه هو الحلم الكبير، الذي إن فعلوه فقد نجحوا نجاحاً كبيراً في مهمتهم، لذلك كان الشعار الثاني: «العربية لغتنا».
3- الانتماء إلى الوطن، فلا تكفي مئة عام لتغيير شخصية وطن، أو تمحو من الوجود صبغة شعب، مهما طال الزمن، فالاحتفال بمرور مئة عام مقولة رهيبة، قد تبعث على الاعتقاد أن هذه البلاد لم تعد عربية، ولن تصبح إسلامية.
عملت الجمعية على إنشاء المدارس في قرى ومدن الجزائر، وضرورة العمل وبسرعة في هذه المدارس، وبأيّ إمكانات موجودة، حتى وصل عدد المدارس التي أُنشئت إلى 200 مدرسة، كلّها تساهم في تعريب الجزائريين، وتعليمهم أصول دينهم، والوقوف في وجه حركات المبشرين.
وكان هذا هو برنامج عمل الجمعيّة: التمسّك بالإسلام وإحياء اللغة العربيّة وتحرير الجزائر، ولتجسيده فتحت الشعب والمدارس والمعاهد وأصدرت جريدة "البصائر" الغراء، وطاف أعضاؤها أرجاء البلاد يدرّسون ويحاضرون رغم مضايقات الإدارة الفرنسية.
هذه الحركة الواسعة للجمعية، والأداء المنظم والمحكم، جعل فرنسا نخشى خطة الجمعية، فبدأت في مضايقة خطوات الجمعية، ومحاولة التأثير على خططها، فقام بتعطيل المدارس، ومنع العلماء من إلقاء الخطب في المساجد، وقاموا بإيداع المدرسين في السجون، ومضايقتهم.
ثم تطور الأمر عند ذلك بأن قام مدير الأمن العام الفرنسي بالجزائر، ونصّب نفسه رئيساً للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الجزائرية، وأصدر تعليمات محددة بمراقبة ورصد تحركات «عبد الحميد باديس»، وجعل وعاظاً رسميين تابعين للحكومة، يقومون بإلقاء الخطب، واستبعد من ذلك علماء الجمعية.
وقد نجحت الجمعية في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمر الفرنسي وحشد الامة الجزائرية ضدها، وبعث الروح الاسلامية في النفوس، ونشر العلم بين الناس.
من جميل كلامه
- ومَن دخل في العمل بغير علمٍ لا يأمنُ على نفسه من الضَّلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وربّما اغترَّ به الجُهّال فسألوه فاغترَّ هو بنفسه فتكلّم بما لا يعلم فضلَّ وأضلَّ.
- الجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل، يتعذر أن تغرس في نفسه عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال.
- أصدق الأمل ما انبنى على العمل.
- قراءة القرآن أفضل أعمال اللسان، وتدبر معانيه أفضل أعمال القلب.
- فوالله الذي لا إله إلا هو ما رأيتُ - وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إلانةً للقلب، واستدرارًا للدمع، وإحضارًا للخشية، وأبعث على التوبة؛ من تلاوة القرآن وسماع القرآن.
- شرّ الأصدقاء مَن لا تعرف أسباب سخطه، فلا تدري متى يرضى ولا متى يسخط.
- اذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقــائصها فلا يسعى في إزالتهـــــا ولهي عن الفضائل فــلا يسعى في اكتســـــابها، فعــــــــاش ولا أخــــلاق له، مصــــدراً لكل شر بعيداً عن كل خير.
- إننا نعرف عقلية الرجل من معرفتنا بالكتب التي يطالعها، فمن لا نرى له عناية بكتب السنة؛ فإننا لا نثق بعلمه في الدين.
- كلمة الوطن إذا رنَّت في الٱذان حرَّكت أوتار القلوب وهزَّت النَّفس هزَّا.
- علىٰ الطالب أن يُفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة؛ تفكيراً صحيحاً مُستقلاً عن تفكير غيره وإنما يعرف تفكير غيره، ليستعين به، ثم لا بُد له من استعمال فكره هو بنفسه
- إذا علمت ولداً فقد علمت فرداً، وإذا علمت بنتاً فقد علمت أمة.
- حقٌ على المسلم أن يختار من يصاحب من رفقة، أو يجالس من جماعة، أو يكثر من سواد قوم، فإنه محاسب على أعماله مجرد حضور بدنه.
- فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة، فنذهبَ في الجدل شرّ مذاهبه، وتصيرُ الخصومة لنا خُلقا، ومن صارت الخصومة له خُلقا أصبح يندفع معها في كل شيءٍ ولأدنى شيء، لا يبالي بحق ولا باطل، وإنما يريد الغلبَ بأي وجه كان.
- إذا أَردتُم إصلاح المرأَة الحقيقي فارفعُوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أَن ترفعوا حجاب السِّتر عن وجهها، فَإِن حجاب الجهل هو الذي أَخرّها، فَأمّا حجاب السِّتر فإِنه ما ضرّها في زمان تقدّمها، فقد بلغت بناتُ بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانًا عليًّا من العلم وهنّ محجبات.
- إذا أردنا أن نُكوِّن رِجالاً فعلينا أنْ نُكوِّن أمهات دَيِّنِيّاتٍ ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليما دِينيًا وتربيتهن تربية إسلامية وإذا تركناهُنّ على ماهنّ عليه من الجهل بالدِّين، فمُحال أن نرجو مِنهنّ أن يُكَوِّنَّ لنا عُظماء الرجال
آثار ابن باديس العلمية:
انشغل ابن باديس ببناء الإنسان وإنقاذ الأجيال التي ولدت في أحضان الاستعمار عن تأليف الكتب، لأنه كان يؤمن بأن بناء الإنسان أصعب، ولكنه أجدى للأمة، من تأليف الكتب، لذ كان رحمه الله مشغولاً بإنقاذ جيل ولد وترعرع في أحضان الاستعمار، وإيقاظ أمة حوربت في دينها ومقدساتها، ومكافحة أمية طغت على الشيب والشبان.
ومعظم إنتاجه الفكري مقالات ودروس ألقاها في المساجد والمدارس، سلم لنا بعضها وفُقد معظمها الآخر، وقد جُمع كثيرٌ من آثاره العلمية بعد وفاته، نذكر منها ما يلي:
أ ـ (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)
لم يكن الشيخ يكتب من التفسير ما يلقي، ولم تكن آلات التسجيل شائعة الاستعمال، متيسّرة الوجود، ولم يتح له تلميــذ نجيب يسجـل ما يقول، كما أتيح للشيخ محمد عبده في رشيد رضا رحمهم الله، ولكن الله أبى أن يضيّع فضله وعمله، فألهمه كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس كان ينشرها فواتح لأعداد مجلة الشهاب، ويسمّيها (مجالس التذكير)، وقد جمعت هذه الافتتاحيات بعد وفاته في هذا الكتاب
ب ـ (مجالس التذكير من حديث البشير النذير) وهو شرح موطأ الإمام مالك، وعلى غرار ما فعل في التفسير، لم يكتب من شرحه للموطأ إلا النزر اليسير في شكل افتتاحيات لمجلة الشهاب، وقد جمعت في هذا الكتاب.
جـ ـ (العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية): وهي عبارة عن الدروس التي كان يمليها على تلاميذه، في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن والسنة النبوية على الطريقة السلفية، وقد جمعها وعلق عليها تلميذه البار الأستاذ محمد الصالح رمضان.
د ـ (رجال السلف ونساؤه) وهي مجموعة من المقالات ترجم فيها ابن باديس لبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وما لهم من صفات اكتسبوها من الإسلام، وما كان من أعمالهم في سبيله، نشر تلك التراجم في مجلة الشهاب.
هـ ـ كما حقق ابن باديس كتاب (العواصم من القواصم): للإمام ابن العربي، وقدّم له وطبعه سنة 1928م، في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة.
مما هو جدير بالذكر أنه قد جمع الدكتور عمار الطالبي آثار ابن باديس، ونشرها في أربعة مجلدات، ونشرها في الجزائر سنة (1388 هـ - 1968م).
وقد قامت وزارة الشؤون الدينية في الجزائر بجمع كثير ممّا حوته صحافة الجمعية من نشاطات الإمام عبد الحميد بن باديس في مجالات التربية والتعليم، والرحلات التي كان يقوم بها داخل الوطن لنشر دعوته، إضافة إلى ما ذكــــرنا مـــن آثـــاره العلميـــة، تحت عنـــوان: (آثار الإمــام عبد الحميد بن باديس ) في ست مجلدات عام 2007م.
وفاته
في مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359هـ ، الموافق 16 أبريل 1940م، أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها، متأثرًا بمرضه بعد أن أوفى بعهده، وقضى حياته في سبيل الإسلام ولغة الإسلام، وقد دفن -رحمه الله- في مقبرة آل باديس بقسنطينة، عن واحد وخمسين عامًا. ، لكنه خلف من بعده أساتذة يحملون الراية ويوالون الجهاد، وفي مقدمتهم رفيق كفاحه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، كما ترك من تلاميذه الشبان من صاروا قادة الثورة الجزائرية التي انطلقت في 5 ربيع الأول 1374(1954 م)، والتي حققت حلم ابن باديس في الاستقلال عام 1382هـ الموافق 1962 م، بعد قرن وثلث قرن من الاحتلال الفرنسي الوحشي ومحاولات الإبادة لهذا الشعب العربي المسلم الصابر المناضل العنيد، الذي دفع ثمن حريته أكثر من مليون و نصف مليون شهيد من خيرة رجاله و نسائه.
ورثاه شاعر الجزائر الكبير محمد العيد آل خليفة بقصيدة مما جاء فيها:
يـا قــبــــر طبت وطـاب فـيـك عبيـــر | هـل أنـت بالضيف العـزيز خبير؟ | |
هـذا (ابن باديس) الإمـام المرتضى | (عبد الحميد) إلى حـمـاك يصـير | |
العـالم الفذ الذي لعلومـه | صِيتٌ بأطـراف البـلاد كبير | |
بعث الجزائر بعد طـول سباتها | فالشعب فيها بالحيـاة بصـير | |
إلى أن يقول:
نم هـادئا فالشعب بعـدك راشـد | يختـط نهجـك في الهـدى ويسير | |
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سـدى | فالـوارثـون لما تركت كثير | |