دراسة السيرة النبوية والتأمل في أحداثها ومواقفها وغزواتها يُسْهم في إحياء الأمة، ويعين على نهوضها، ويبعث فيها روح العزة والقوة، ويأخذ بيدها إلى الأخوة والمحبة والتكافل والتراحم، ويقودها إلى المتابعةِ والاقتداء بنبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21).. وهذه وقفة لأخذ العِبْرَة ـ بل الدروس والعِبَر ـ مِنْ غزوة مؤتة التي وقعت في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة النبوية، وكانت المواجهة فيها بين ثلاثة آلاف مِنَ المسلمين، مقابل مائتي ألف مقاتل كافر مِن نصارى العرب والعَجم في أول مواجهة بينهم. وقد سميت غزوة مؤتة بهذا الاسم لأنها كانت إلى موضع بالشام يقال له مؤتة وهو الذي وقعت فيه المعركة، ولذلك سُميت هذه الغزوة باسم موضعها كما هو الحال في كثيرة من الغزوات..
دأبت الروم ومَنْ والاها مِنَ العرب على إيذاء المسلمين واستفزازهم بكل الطرق، وكان مِن أظهرها المحاولات المتكرّرة للتعرّض لتجارة المسلمين القادمة من الشام، والقيام بالسلب والنهب لقوافل المسلمين التي تمرّ بطريقهم، فضلا عمّا مارسوه مِن ضغوطاتٍ ومضايقاتٍ طالت كل مسلم وقع تحت أيديهم.. وبلغ الأذى ذروته حين بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي رسولاً إلى ملك بُصرى من أرض الشام يدعوه إلى الإسلام، فما كان من ملك بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملا على البلقاء من أرض الشام من قِبَل قيْصرـ، أوثقه رباطا، ثم قدمه فضرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، وهو بمثابة إعلان حرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، ومِنْ ثم جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وعقد الراية لثلاثة منهم وجعل إمرتهم بالتناوب فيما بينهم..
عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: فإن قُتِل زيدٌ أو استشهد فأميركم جَعْفَر، فإن قَتِل أو استُشْهِدَ فأميركم عبد الله بن رواحة. فلقوا العدو فأخذ الراية زيْد فقاتل حتى قُتِل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قُتِل، ثم أخذها عبد الله بن رواحَة فقاتل حتى قُتِل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه. وأتى خبرهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن إخوانكم لقوا العدو وإن زيدًا أخذ الراية فقاتل حتى قُتِل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جَعْفَر بن أبي طالب فقاتل حتى قُتِل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبْد الله بن رواحة فقاتل حتى قُتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوَليد ففتح الله عليه. ثم أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي، قال ـ عبدُ اللهِ بنُ جَعفرـ: فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: ادعوا لي الحلاق، فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا، ثم قال: أما محمَّد فشبيه عمنا أبى طالب، وأما عَبْد الله فشبيه خَلْقِي وخُلُقي، ثم أخذ بيدي فأشالها فقال: اللَّهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرار، قال: فجاءت أمنا فذكرت له يُتْمَنا وجعلت تُفَرِّح له (تذكر أنَّ أباهم توفي ولا عشيرة له)، فقال: العَيلةَ (الفقر والحاجة) تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) رواه أحمد..
دروس وعِبر:
الدروس والعِبر مِنْ غزوة ومعركة مؤتة كثيرة، ومْنها:
1 ـ أظهرت معركة مؤتة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فرغم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشارك فيها، إلا أنه نعى استشهاد قادتها الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر عن أحداثها وما آلت إليه، وفي ذلك معجزة نبوية ظاهرة، فما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإخبار عن أمر غيبي وقع كما أخبر به فبوحي من الله تعالى، للدلالة على صدقه ونبوته، ومن ذلك إخباره صلوات الله وسلامه عليه وهو في المدينة المنورة بما يدور من أحداث القتال والمعركة في مؤتة على مشارف الشام قبل أن يأتيه الخبر من أرض المعركة، ونعيه للمسلمين باستشهاد زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم وهم ما زالوا في أرض المعركة وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافات شاسعة، وهذا من جملة معجزاته وآياته الدالة على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلقى الوحي من الله عز وجل، ولذلك كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد
فإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقها في صحوة اليوم أو غد
2 ـ في موقفه صلى الله عليه وسلم مع أبناء جعفر رضي الله عنه الذي استشهد في المعركة بيان لمعالم المنهج النبوي الكريم في الرعاية والاهتمام ـ مادياً ونفسياً ـ بزوجات وأبناء المجاهدين والشهداء في سبيل الله عز وجل، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس رضي الله عنها زوجة جعفر رضي الله عنه: (العَيلةَ (الفقر والحاجة) تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة). فخلافة المجاهدين والشهداء في أهلهم وأبنائهم بالرعاية والنفقة والاهتمام تُعد باباً من أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى. عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ جهَّز غازيا في سـبيل الله فقد غزا، ومَنْ خلف غازيا في سـبيل الله في أهله بخير فقد غزا) رواه البخاري. قال الهروي: "(في سبيل الله) أي: في الجهاد، (فقدْ غزا) أي: حُكماً وحصل له ثواب الغزاة، (ومَنْ خلَف): بفتح اللام المخففة (غازيا) أي: قام مقامه بعده وصار خلفا له برعاية أموره (في أهله بخير، فقد غزا). قال القاضي: يقال خلفه في أهله إذا قام مقامه في إصلاح حالهم ومحافظة أمرهم". وقال الشيخ ابن عثيمين: "فإعانة الغازي تكون على وجهين: الأول: أن يعينه في رحله، ومتاعه، وسلاحه. والثاني: أن يعينه في كونه خلفاً عنه في أهله، لأن هذا من أكبر العون، فإن كثيراً من الناس يُشْكل عليه من يكون عند أهله يقوم بحاجتهم، فإذا قام هذا الرجل بحاجة أهله وخلفه فيهم بخير فقد غزا".
ولم تكن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأرامل والأيتام مقصورة على زوجات ويتامى المجاهدين والشهداء فقط، بل تعدتهم إلى كل أرملة ويتيم، فقد أوصى صلوات الله وسلامه عليه ـ عامة ـ برعاية وكفالة الأرامل واليتامى والرحمة والشفقة والاهتمام به في أحاديث كثيرة، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السَّاعي على الأرملة (التي مات زوجها) والمسكين كالمجاهد في سبيل اللَّه، أو القائمِ الليلَ والصائمُ النهار) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك) رواه الطبراني..
3 ـ أعطتنا معركة وغزوة مؤتة درسا هاما في أثر الإيمان بالله عز وجل على سير المعارك ونتائجها، فما يثير الدهشة في هذه المعركة، ذلك الفرق الكبير بين عدد المسلمين وعدد أعدائهم، فقد كان عدد الروم ومَنْ معهم ما يقرب مِن مائتي ألف مقاتل، على حين أن عدد المسلمين لم يتجاوز ثلاثة آلاف، كما روى ذلك ابن هشام وابن إسحاق وابن سعد وعامة كُتّاب السِيرة النبوية.. والمتأمِّل في غزوة مؤتة وأحداثها يرى أنه على الرغم من ضراوتها وشدتها، وقلة أعداد المسلمين وكثرة أعداد النصارى فيها، فإنه لم يُستشهد مِنَ المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً فقط، أمَّا النصارى فلم يُعرف عدد قتلاهم، غير أنَّ وصف المعركة يدل على كثرتهم، وفي ذلك درس عظيم وهو أن نصر الله عز وجل للمسلمين لا يتوقف على عدد ولا عدة، ويعبر عن ذلك أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: "شهدتُ مؤتة، فلما دنونا مِنَ المشركين رأينا ما لا قِبل لأحد به مِنَ العُدَّة والسلاح والكُراع (الخيل) والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أَقْرَم: يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعًا كثيرة؟ قلتُ: نعم، قال ثابت: إنك لم تشهد بدراً معنا، إنا لم نُنْصر بالكثرة".
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" في كلامه على أحداث غزوة ومعركة مؤتة: "هذا عظيم جدّاً أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل: من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يُقْتَل مِنَ المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قُتِل من المشركين خَلْقٌ كثير، هذا خالد وحده يقول: "لقد اندقت (انكسرت) في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية (سيف يمني)"، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟! دَعْ غيره مِنَ الأبطال الشجعان مِنْ حملة القرآن، وقد تحكَّموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان، وهذا مما يدخل في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}(آل عمران:13)".
4 ـ انفردت غزوة مؤتة بأمْر لم يحدث مثله في غيرها من المعارك والغزوات، فقد أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثلاثة أمراء بالترتيب. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قُتِل زيد فجعفر، فإن قُتِل جعفر فعبد الله بن رواحة) رواه البخاري.. ومما انفردت به غزوة مؤتة كذلك أن الكثير من علماء وكُتَّاب السِير أسموها غزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج فيها.. وقد سُميت مؤتة غزوة رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك فيها، لأن قصد النبي صلى الله عليه وسلم لقتال الكفار بنفسه أو بجيش مِنْ قِبَله ولو لم يشارك فيه، يسمى هذا العمل غزوة. قال ابن حجر في "شرح كتاب المغازي في صحيح البخاري: "المغازي جمع مغزى، يقال: غزا يغزو غزوا ومغزى.. والمراد بالمغازي هنا ما وقع مِنْ قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار لنفسه أو بجيش مِنْ قِبَلِه". ومن ثم فإن تسمية معركة مؤتة غزوة صحيح، لأن جيش تلك المعركة انطلق بأمر النبي صلى الله عليه وسلم..
غزوة مؤتة مِنْ أعظم المعارك التي خاضها المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر المسلمون فيها قوة وشجاعة، رغم قلة عددهم مقابل أعداد عدوهم الهائلة والكبيرة، وقد أظهر قادة الجيش الثلاثة ـ زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم ـ شجاعة عظيمة حتى استشهدوا جميعا رضي الله عنهم، وقد أسهمت غزوة مؤتة في إبراز خالد بن الوليد ـ سيف الله ـ رضي الله عنه كشخصيّة عسكرية فذّة، وقيادة حكيمة، كان لها دورها في الفتوحات الإسلامية بعد ذلك..