اختلاف القراءات القرآنية من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد، فحيث صحت القراءة، كقراءات القراء السبعة؛ فإن لها من المعاني شيئاً عظيم الأثر، توقن معه نفس المؤمن أنَّ هذا القرآن بجميع وجوه قراءاته من عند الله سبحانه.
وقد ذكر العلماء جملة من الفوائد المترتبة على اختلاف القراءات القرآنية، فمن أبرز تلك الفوائد الآتي:
- التخفيف على الأمة ورفع الحرج عنها بالقراءة على الوجه المتيسر لها، خاصة ما يتصل بأحكام مخارج الحروف وصفاتها ونحو ذلك. ولقد علمنا أن من حكمة إنزال القرآن على سبعة أحرف التيسير على الأمة، والاختلاف في القراءات الصحيحة جزء من اختلاف الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن.
- الإبانة عن الإعجاز بتنوع وجوه التلاوة، فإن الاختلاف في الحرف ربما دل على معانٍ من العلم لا توجد في الحرف الآخر، فتكون الكلمة الواحدة تؤدَّى على صورتين، أو أكثر من النطق، تدل كل صورة منها على معنى غير الذي دلت عليه الأخرى؛ وذلك مثل قوله سبحانه: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم} (المائدة:6) قُرئ بفتح اللام في {وأرجلكم} عطفاً على {وأيديكم} في الغسل في قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم من رواية حفص، وقُرئ بكسر اللام عطفاً على {برءوسكم} في المسح في قراءة الباقين وعاصم من رواية أبي بكر بن عيّاش. وهذه الثانية دلت على المسح على الخفين في قول كثير من أهل العلم.
ونحو هذا قوله عز وجل على لسان قوم عاد: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين} (الشعراء:137) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {خَلْق} بفتح الخاء وسكون اللام، أي: ما جئت به كَذِبٌ وافتراءُ الأولين، وقرأ باقي السبعة: {خُلُق} بضم الخاء واللام، أي: عادة الأولين، فردوا عليه وعظه قائلين: هذا الذي نحن عليه عادةُ الأولين.
- ومن فوائدها تفسير الإجمال في قراءة أخرى، كما في قراءة: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (البقرة:222) قرأ أكثر السبعة {يطْهُرن}، بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر {يطَّهَّرن} بتشديد الطاء والهاء وفتحهما؛ فعلى قراءة الأكثر إجمال في احتمال أن تكون طهارتهن بمجرد انقطاع الدم، وفي قراءة الباقين إبانة عن كون ذلك باغتسالهن بعد انقطاع الدم.
- ومنها ما في ذلك الاختلاف من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها، لم يخفَ ما كان في ذلك من التطويل.
- تعدد القراءات القرآنية كان من الأدلة التي اعتمدها العلماء في بيان صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ ووجه ذلك أنه على الرغم من تعدد القراءات وكثرتها، لم يتطرق إلى القرآن أي تضاد أو تناقض أو تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضاً، ويؤيد أوله آخره، وآخره أوله، تصديقاً لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82).
- تعدد القراءات فيه دلالة على إعجاز القرآن الكريم، وأنه من عند رب العالمين؛ بيانه أن كل قراءة من القراءات تحمل وجهاً من وجوه الإعجاز، ليس في غيرها، وبعبارة أخرى، إن القرآن معجز إذا قُرئ بهذه القراءة مثلاً، ومعجز كذلك إذا قُرئ بقراءة ثانية وثالثة وهكذا، ومن هنا تعددت معجزاته بتعدد قراءاته.
- ومنها سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة؛ فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه وأدعى لقبوله من حفظه جملاً من الكلام، تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات، ولا سيما فيما كان خطه واحداً، فإن ذلك أسهل حفظاً وأيسر لفظاً.
- ومنها إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يُفْرِغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره وخَفِيِّ إشاراته، وإنعامهم النظر وإمعانهم الكشف عن التوجه والتعليل والترجيح، والتفصيل بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم، قال سبحانه: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} (آل عمران:195)، والأجر على قدر المشقة؛ تحقيقاً وتصديقاً لما أخبر به الصادق المصدوق، بقوله: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
- ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظة لفظة، والكشف عن صيغة صيغة، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكاً، ولا تسكينا، ولا تفخيماً ولا ترقيقاً، حتى ضبطوا مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتدِ إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم.
- ومنها ما ادخره الله من المنقبة العظيمة، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السبب الإلهي بسببها خصيصة الله تعالى هذه الأمة المحمدية، وإعظاماً لقدر أهل هذه الملة الحنيفية، وكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب الملحد قطعاً بوصله، فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة لكفت، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصيصة النبيلة لوفَّت.
- ومنها ظهور سر الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنـزَّل، بأوفى بيان، وأوضح بلاغ، يرشد لهذا المعنى، أنه سبحانه لم يُخلِ عصراً من العصور من إمام حجة، قائم على نقل كتابه وإيصاله إلى عباده، مع إتقان حروفه ورواياته، وبيان وجوهه وقراءاته، وفي ذلك تصديق لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} {الحجر:9}.
ولا شك أن ظاهرة تعدد القراءات تؤكد لنا حقيقة أساسية تتمثل في أمرين اثنين:
الأول: عناية العلماء بكتاب الله، وحرصهم على ضبط القراءات القرآنية، التي ثبت عن طريق النقل الصحيح بالسند المتصل الموثوق بروايته أنها من أوجه القراءات التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمدها؛ تيسيراً على الأمة ومراعاة لتعدد لهجاتها وطرقها في التعبير، وأساليبها في الخطاب.
الأمر الثاني: توقيف كل ما يتعلق بالقرآن، قراءة له، ورسماً لكلماته وحروفه، وأداء لألفاظه، وضبطاً لكيفيات نطق كلماته وعباراته، بحيث تقتصر مهمة القراء على تتبع الروايات المنقولة عن الثقات، والتأكد من صحة تلك الروايات. والفرق بين الرواية الصحيحة والرواية الشاذة يظهر في مدى قوة السند.
يشار إلى أن ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر" تعرض لذكر فوائد اختلاف القراءات القرآنية، وفَعَلَ الشيء نفسه السيوطي في "الإتقان"، معتمداً بشكل أساس على ما ذكره ابن الجزري.