ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى الخوارج في كتابه "تلبيس إبليس" وذكر كيف لبس عليهم إبليس دينهم حتى قالوا ما قالوا، واعتقدوا بالباطل ما اعتقدوا من تكفير أهل القبلة بالذنوب، وقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم من المسلمين، وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم.. فكان مما ذكر رحمه الله من تلبيس الشيطان عليهم.. قال ما معناه مختصرا:
أول الخوارج وأقبحهم حالا ذو الخويصرة، وذكر قصته، وهي مروية في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية، فقسمها بين الأربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا، قَالَ: (إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ). فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كثّ اللحية محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: (من يطع الله إذا عصيت؟ أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني). فسأل رجل قتله - أحسبه خالد بن الوليد - فمنعه، فلما ولى قال: (إن من ضئضئ هذا، أو: في عقب هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّة، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).
وهَذَا الرَّجُل المخذول يقال لَهُ "ذو الخويصرة التميمي"، وهو أول خارجي خرج فِي الإسلام، وآفته وآية خذلانه أنه رضي برأي نفسه وقدمه على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تبصر لعلم أنه لا رأي فوق رأي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال، قوم يسلكون مسلكه، يقرؤون القرآن سهلًا لكثرة قراءتهم وحفظهم له، ولكن لا يصل إلى قلوبهم، فهم لا يفهمونه على ما أريد، بل يضعونه في غير موضعه؛ لأنهم ضالون وجاهلون.
وقد كان ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال، فكان أتباع هَذَا الرَّجُل هم الذين قاتلوا عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه، بعد حادثة التحكيم المشهورة بين علي ومن معه وبين أهل الشام، فقالت الخوارج: تحكمون فِي أمر اللَّه الرجالَ، لا حكمَ إلا اللَّه.. وفارقوا الناس، وأتوا حروراء فنزل بِهَا منهم اثنا عشر ألفا، فكان ذلك أول ظهورهم.. وأمَّروا عليهم أميرا للقتال، وأميرا للصلاة، وأجمعوا عَلَى أن يخرجوا عَلَى عَلِيّ بْن أبي طالب وأن يقاتلوه، فكان لا يزال يجيء إنسان لعلي فيقول: يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك، فيقول: دعوهم فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون.
واستأذن ابن عباس رضي الله عنه عليا أن يأتيهم فيحاولهم، فأذن له، فحاورهم ورد على شبهاتهم وفندها جميعها، فرجع منهم ألفان وبقي الآخرون.
كلاب أهل النار
وقد كان علي رضي الله عنه يعلم أنهم خارجون لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، ودل على صفتهم وأحوالهم، فقال في وصفهم: (يَخْرُجُ قَوْمٌ فِيكُمْ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَأَعْمَالَكُمْ مع أعمالهم يقرأون الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمْيَةِ) [أخرجاه فِي الصحيحين].
ومع هذه العبادة الشديدة روى اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْخَوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ)[7/ 1305].
وقد قال علي نفسه رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ أَوْ لِيُقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَجْرًا فِي قَتْلِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وقال أيضا فيما سمعه منه علي رضي الله عنه: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتَهُمْ فَاقْتُلْهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[مصنف عبد الرزاق: 9/335].
وقال عنهم رسول الله أيضا: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ، لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ)[متفق عليه].
يقتلون أهل الإسلام
وقد وقع ما قاله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى، فلقي الخوارج فِي طريقهم عَبْد اللَّهِ بْن خباب فقالوا: هل سمعتَ من أبيك حديثا يحدثه عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثناه؟ قَالَ: نعم.. سمعتُ أبي يحدث عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر (فتنةً القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فَإِن أدركت ذلك فكن عَبْد اللَّهِ المقتول). قالوا: أنت سمعت هَذَا من أبيك تحدثه عَنْ رَسُول اللَّهِ؟ قَالَ: نعم.. فقدموه إِلَى شفير النهر فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل، وبقروا بطن أم ولده عما فِي بطنها وكانت حبلى. عليهم من الله ما يستحقون.
وجاء في شرح أصول الاعتقاد: 7/1306 عمن حدث عَنْ عُبَادَةَ بْنِ قُرْطٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِلخَوَارِجِ حِينَ أَخَذُوهُ بِالْأَهْوَازِ: ارْضُوا مِنِّي بِمَا رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسْلَمْتُ، قَالُوا: وَمَا رَضِيَ بِهِ مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَتَيْتُهُ فَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي، قَالَ: فَأَبَوْا، فَقَتَلُوهُ".
فتحقق فيهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جوانبهم، في حقيقتهم وعبادتهم، وأفعالهم، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يعني يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، حتى في أشكالهم فقد وصفهم المعصوم صلوات الله وسلامه عليه أن (سيماهم التحليق)، يعني يحلقون رؤوسهم بالموسى، وللعجب العجاب أن هذا ما زال وصفهم على مدار الأوقات، وإلى زماننا هذا.
قتال علي لهم:
ولما قتل الخوارج عبدَ الله بنَ خباب، بعث إليهم علي رَضِيَ اللَّهُ عنه وهم عند النهروان: أن أخرجوا إلينا قاتل عَبْد اللَّهِ بْن خباب. فقالوا: كلنا قتله.. فناداهم ثلاثا كل ذلك يقولون هَذَا القول، فَقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عنه لأصحابه دونكم القوم، فما لبثوا أن قتلوهم، فلم يكد ينجو منهم أحد.
ومن عجيب ما يروى عنهم أنهم رغم استطالتهم على دين المسلمين بالتكفير، وعلى دمائهم بالقتل، وعلى أموالهم بالاستحلال بالسلب والنهب، ذكر ابن الجوزي أنهم نزلوا تحت نخل مواقير بنهروان، فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بِهَا فِي فيه، فَقَالَ أحدهم: أخذتها بغير حقها وبغير ثمنها، فلفظها من فيه!!
قال: واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه به يجربه فيه، فقالوا: هَذَا فساد فِي الأَرْض.. فلقي صاحب الخنزير فأرضاه فِي ثمنه.
هذا مع أنهم قتلوا أمير المؤمنين، وصهر رسول الله، ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه، عندما ضربه ابن ملجم وهو خارج للصلاة فقتله وهو يعتقد أن ذلك قربة تقربه إلى الله، وإنما تقربه إلى النار، عليه لعنة الله تعالى.
ولهذا قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله فيهم: "ولهم قصص تطول، ومذاهب عجيبة لم أر التطويل بذكرها، وإنما المقصود النظر فِي حيل إبليس وتلبيسه عَلَى هؤلاء الحمقى الذين عملوا بواقعاتهم واعتقدوا أن عليا بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه عَلَى الخطأ ومن معه من المهاجرين والأنصار، وأنهم عَلَى الصواب.. واستحلوا دماء النساء والأطفال ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها، وتعبوا فِي العبادات وسهروا، وجزع ابْن ملجم عند قطع لسانه من فوات الذكر واستحل قتل علي كرم اللَّه وجهه، ثم شهروا السيوف عَلَى المسلمين.
ولا أعجبُ من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من علي رَضِيَ اللَّهُ عنه؛ فقد قَالَ ذو الخويصرة لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعدل فما عدلت. وما كان إبليس ليهتدي إِلَى هذه المخازي، نعوذ بالله من الخذلان".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
خواطـر دعوية