الملائكة خَلْقٌ مِنْ مخلوقات الله تعالى، مُكْرَمون خَلْقاً وخُلُقاً، برَرَة صِفة وفِعْلا، خلقهم الله عز وجل من نور، وهم رسُل الله تعالى وجنده في تنفيذ أمره الذي يُوحِيه إليهم، وسُفَراؤه إلى أنبيائه ورسله، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(الحج: 75). قال ابن كثير: "يُخْبِر تعالى أَنَّهُ يَخْتَار مِنَ الْمَلَائِكَة رُسُلًا فِيمَا يَشَاء مِنْ شَرْعِه وقَدَره، ومِنَ النَّاس لِإبْلَاغ رِسَالَاتِهِ". وقال السعدي: "أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء،". وهم مَجبُولون على طاعة الله، قال الله تعالى عنهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(التحريم:6). قال الطبري: "لا يخالفون الله في أمره الذي يأمرهم به {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يقول: وينتهون إلى ما يأمرهم به ربهم". وقال السعدي: "وهذا فيه أيضًا مَدْح للملائكة الكرام، وانقيادهم لأمر الله، وطاعتهم له في كل ما أمرهم به".
والملائكة ليسوا بناتاً لله عز وجل ولا أولادا، ولا شركاء معه ولا أندادا، قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}(الْأَنْبِيَاءِ:26)، قال ابن كثير: "يقول تعالى ردّاً على مَنْ زعم أن له ـ تعالى وتقدَّس ـ ولدا من الملائكة، كمَنْ قال ذلك مِنَ العرب: إن الملائكة بنات الله، فقال: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده، في منازل عالية ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا". وقال تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}(الزُّخْرُف:19). قال السعدي: "يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين.. ومنها: أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله".
والإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). والإِيمان بالملائكة يدخل فيه: الإيمان والاعتقاد بوجودهم، فقد ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى في كِتَابه، وَذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في أحاديثه. ويدخل فيه: الإِيمان بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِن نُّور كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأَنَّهُمْ لَا يَعْصُون اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون، ويدخل في الإيمان بالملائكة أيضاً: الْإِيمَان بأسماء وأَوْصَافِ وأعمال مَنْ عَلِمْنَا اسْمَه ووَصْفَه وعمَله مِنَ القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، فلا عِلْم لنا بعالَم وصفات وأحوال الملائكة إلا في حدود ما أخبرنا الله عز وجل عنه في قرآنه الكريم، أو مِن خلال أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم الصحيحة.
والملائكة بالنسبة إلى ما هَيّأهم الله تعالى له ووَكّلهم به على أقسام، فمنهم ما هو مُوَكل بالوحي من الله تعالى إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام، ومنهم الْمُوَكَّلُ بِالْقَطْرِ (المطر) وَتَصَارِيفِه إلى حيث أمره الله عز وجل، وهو ميكائيل عليه السلام، وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّل بِالْجِبَال، ومنهم الْمُوَكَّل بِقَبْضِ الْأَرْوَاح وهُو مَلَك الْمَوْت، ومنْهُم الْمُوَكَّل بِفِتْنَةِ الْقَبْر، وَهُمْ مُنْكَرٌ وَنَكِير، ومنهم الْمُوَكَّل بِالصُّور، وَهُوَ إِسْرَافِيل عليه السلام، ومنهم المُوكَل بالنار، ومنهم المُوكل بالجنة.. ومِن الملائكة كذلك ما هو مُوكَل بحِفظ العَبْد في حِلّه وارْتِحَالِه، ونومه ويقظته، وفي أحواله كلها..
الملائكة الموكلة بحِفظ العبد:
مِن الملائكة ما هو مُوَكَّل مِن الله عز وجل بِحِفْظِ الْعباد فِي نَوْمِهم وَيَقَظَتِهِم وفي جميع حالاتهم، وَهُمُ الْمُعَقِّبَات، يحفظون العِباد مما لم يُقَدِّره الله سبحانه مِنْ إصابة العَبْد به، فإذا قدَّر الله عز وجل أن يُصاب العَبْد بشيء فلا تستطيع الملائكة دفعه، ومِن الآيات القرآنية الدالة على ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}(الرَّعْدِ:11:10).
قال الطبري: "قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: والمعقبات مِن الله هم الملائكة يحفظونه مِن بين يديه ومِن خلفه، فإذا جاء قدر الله تعالى: خَلَّوا عنه.. وقال مجاهد: ما مِن عبْدٍ إلا له مَلَك موكّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءَك، إلا شيئًا يأذنِ الله فيصيبه.. وعن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: ما مِن آدَمي إلا ومعه ملك موكَّل يذود عنه حتى يسلمه للذي قُدِّر له". وقال البغوي في "معالم التنزيل في تفسير القرآن": "يَحْفَظُونَه مِنْ أَمْرِ اللَّه، يَعْنِي: بِأَمْرِ اللَّه، أَيْ: يَحْفَظُونَه بِإِذْنِ اللَّه مَا لَمْ يَجِئِ القدر، فإذا جاء القدر خلوا عَنْه. وقيل: يَحْفَظُونه مِنْ أَمْرِ اللَّه أَيْ: مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِه مِنَ الْحِفْظِ عَنه. قال مُجَاهد: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَه مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِه يَحْفَظُه في نَوْمِهِ وَيَقَظَتِه مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيه يُرِيدُه إِلَّا قال وَرَاءَكَ، إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُه". وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن": " اختُلِف في هذا الحفظ، فقيل: يَحْتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء الْمُضِرَّة، لُطْفاً منه به، فإذا جاء القدر خَلَّوْا بينه وبينه، قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.. وعلى هذا {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِإِذْنِه، فَ" مِنْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَحُرُوفُ الصِّفَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ. وقِيل:{مِنْ} بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ يَحْفَظُونَه عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ حِفْظُهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا قَوْل الْحَسَن". وقال السعدي في "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان": "{لَهُ} أي: للإنسان {مُعَقِّبَاتٌ} من الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: يحفظون بدنه وروحه مِن كل من يريده بسوء، ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما.. {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وشِدة وأمراً يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم".
2 ـ قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}(الأنعام:61).
قال ابن كثير: "{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَة يَحْفَظُون بَدَنَ الْإِنْسَان، كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}(الرَّعْد:11)، وحَفَظَة يَحْفَظُون عَمَلَه وَيُحْصُونه عَلَيْهِ كَما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(الِانْفِطَار:12:10)". وقال ابنُ الجوزيِّ في "زاد المسير": "وفيما يحفظونه قولان: أحدهما: أعمال بني آدم قاله ابن عباس. والثاني: أعمالهم وأجسادهم، قاله السُدِّي". وقال الشَّوكاني في "فتح القدير": "قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أَيْ مَلَائِكَةً جَعَلَهُمُ اللَّهُ حَافِظِينَ لَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ}(الِانْفِطَار:11) والْمَعْنى: أَنَّهُ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِنَ الْآفَاتِ وَيَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ". وقال السعدي: "{الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ينفذ فيهم إرادته الشاملة، ومشيئته العامة، فليسوا يملكون من الأمر شيئا، ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإذنه، ومع ذلك، فقد وكَّل بالعباد حفظةً من الملائكة، يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل".
فائدة:
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحِكم" في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفَظِ الله يَحْفَظْك): "وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}(الرَّعْد:11). قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه. وقال على رضي الله عنه: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه.. وقال مجاهد: ما مِنْ عَبْدٍ إلا وله مَلك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام (الحشرات والكائنات الضارة)، فما مِن شيء يأتيه إلا قال له وراءك، إلا شيئاً أذِنَ الله فيه فيصيبه.. ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته، حفظه الله في حال كِبَره وضعفِ قوّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله.. والنوع الثاني مِنَ الحفظ، وهو أشرف النوعين: حِفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته مِنَ الشبهات المُضِلَّة، ومِن الشهوات المُحرَّمة، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته، فيتوفَّاه على الإيمان".
الملائكة الكِرام يصحبون بني آدم مِن يوم تكوينهم في بطون أمهاتهم حتى نزْع أرواحهم مِنْ أجسادهم يوم موتهم، وهم أيضاً يصحبونهم في قبورهم وفي الآخرة.. ومِن الملائكة مَنْ أوكله الله عز وجل بحفظ العباد في حِلِّهم وارتحالِهم، وفي نَومِهم ويَقَظتِهم، ـ لطفاً ورحمة وحفظاً منه بهم ـ، فإذا جاء قدَر الله عز وجل على عباده - الذي قدَّره أن يقع بهم - فلا تستطيع الملائكة رده وتخلوا عنهم، قال الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}(الرَّعْدِ:11).