الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الله تعالى أمر عباده بالسعي في الأرض لطلب الرزق والتكسب وكفاية النفس عن الحاجة إلى الناس، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (الملك: 15).
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (ذكر سبحانه نعمته على خَلْقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارَّةً ساكنةً لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلَك فيها من السُّبل، وهيَّأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } (الملك: 15)؛ أي: فسافروا حيث شئتم مِن أقطارها، وتردَّدوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيَكم لا يُجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسرَه الله لكم؛ ولهذا قال: { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } (الملك: 15)؛ فالسعيُ في السبب لا ينافي التوكلَ).
وقال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61). قال الشيخ السعدي - رحمه الله - في تفسيرها:
(..{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } أي: خلقكم فيها { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها).
الترغيب في السعي والعمل في الكتاب والسنة:
قال الله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (الجمعة: 10).
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (قوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ } أي: فُرغ منها، { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } لَمَّا حجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض، والابتغاء من فضل الله).
وقال السعدي – رحمه الله - : (لطلب المكاسب والتجارات).
قال ابن أبي حاتم (رحمه الله): (كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتَني، فارزقني من فضلك، وأنت خيرُ الرازقين).
وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يحثنا على العمل والسعي للتكسب ويرغب في ذلك بأساليب متعددة، فقد روى البخاري عن المِقدام رضي الله عنه: أن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ما أكَلَ أحدٌ طعامًا قط خيرًا مِن أن يأكلَ مِن عمل يده".
وقال صلى الله عليه وسلم: " لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بحُزْمَةِ الحَطَبِ علَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بهَا وجْهَهُ خَيْرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ "رواه البخاري.
ففي هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم أنَّ العمَلَ مهْما كان نوعُه فهو أفضل مِن سؤالِ النَّاسِ وإراقةِ ماءِ الوجْه لهم، وأنَّه مهْما يكُنْ شاقًّا عَنيفًا فهو أرحَمُ مِن مَذلَّةِ السُّؤالِ، فعندَ الحاجةِ يَنْبغي تَرجيحُ الاكتِسابِ على السُّؤالِ، ولو كان بعملٍ شاقٍّ.
وبطريقة أخرى وبأسلوب بديع يرغب في العمل وعمارة الأرض فيقول صلَّى الله عليه وسلَّم: " إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها "رواه أحمد.
قال المناوي رحمه الله : (هذا الحديث فيه الحثُّ على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرةً إلى آخرِ أمدها المحدودِ المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرُك فانتفعتَ به، فاغرس أنت لمن يجيءُ بعدك لينتفع، وإن لم يبقَ من الدنيا إلا وقت قليل).
ومن هذا الباب ما كان من معاوية رضي الله عنه حين أخذ في إحياء أرض وغرس نخل في آخر عمره فقيل له فيه فقال: ما غرسته طمعا في إدراكه بل حملني عليه قول الأسدي:
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به. . . ولا يكون له في الأرض آثار
ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"رواه مسلم.
قال النووي - رحمه الله -: (هذا الحديث فيه فضيلةُ الغرس، وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمرٌّ ما دام الغراسُ والزرع، وما تولد منه إلى يوم القيامة).
ويقول صلى الله عليه وسلم: " مَن أحيا أرضًا ميتةً فله بها أجرٌ، وما أكله العوافي منها فهو له صدقةٌ".
فحثَّ في هذا الحديث على العمل وعمارة الأرض بالزرع والبناء ونحوهما وبَيَّن أنه لا ينتفع أحد من الخلق بأثر هذا العمل إلا كان للعامل أجر وصدقة.
وقد مَرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ" رواه الطبراني.
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: " الساعي على الأرملةِ والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائمِ الليل، الصائم النهار"متفق عليه.
وقد ذكر أهل العلم أن المراد بالساعي: الكاسبُ لهما، العامل لمؤنتهما.
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "على كلّ مسلم صدقة". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدّق" متفق عليه.
الأنبياء والعمل والتكسب:
لقد كان أنبياء الله ورسله قدوة في هذا الباب فكانوا يعملون بأيديهم ويتكسبون، وقد ذكر الله لنا ذلك في القرآن وذكره النبي في سنته، قال الله عز وجل عن عبده ونبيه داود عليه السلام: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سبأ: 10، 11).
والسابغات هي الدروع.
وقال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } (الأنبياء: 80).
فقد علمه الله عز وجل صنعةَ الدُّروع.
وعن المقدام- رضي الله عنه - عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: "ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله داود- عليه السّلام- كان يأكل من عمل يده"رواه البخاري.
أما نبي الله موسى عليه السلام فإنه قد رعى عدة سنوات للرجل الصالح حتى ينكح ابنته، قال الله عز وجل مبينا ما كان بينهما من حوار واتفاق: { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }(القصص: 27 - 28).
وقد ثبت أن نبي الله موسى قضى أتَمَّ وأكمل الأجلين، فقد روى البخاري أن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله. فقدمت فسألت ابن عباس - رضي الله عنه - فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل.
ونبي الله زكريا عليه السلام كان نجارا، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "كان زكريَّاءُ نجَّارًا".
قال الإمام النووي - رحمه الله -: (هذا الحديث دليلٌ على أن النجارة صنعةٌ فاضلة، وفيه فضيلة لزكرياءَ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنه كان صانعًا يأكل مِن كَسْبِه).
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عمل قبل بعثته بالتجارة كما عمل برعي الغنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ما بعَث الله نبيًّا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريطَ (نقود) لأهل مكة" رواه البخاري.
قال العلامة ابن حجر رحمه الله في شرحه للحديث: (قال العلماء: الحكمةُ في إلهام الأنبياء رَعْيَ الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرنُ برعيها على ما يُكلَّفونه مِن القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يُحصِّلُ لهم الحِلمَ والشفقةَ؛ لأنهم إذا صبروا على رعيِها وجمعها بعد تفرُّقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سَبُع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها، وشدة تفرُّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة - أَلِفُوا من ذلك الصبرَ على الأمة، وعرَفوا اختلافَ طِباعها، وتفاوُتَ عقولها؛ فجَبَروا كَسرَها، ورفقوا بِضَعِيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمُّلهم لمشقة ذلك أسهلَ مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لِما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصَّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثرُ من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرُّقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها).
الصحابة والعمل والتكسب:
لقد كانت حياة أصحاب النبي عامرة بالجد والاجتهاد والعمل في شتى الميادين، وكانوا أحرص الناس على التعفف والاستغناء عن الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأوضح دلالة على هذا المعنى ما رواه البخاري – رحمه الله - عن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: لما قدمنا المدينةَ، آخَى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيني وبين سعدِ بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هوِيتَ، نزلتُ لك عنها، فإذا حلَّتْ تزوجتَها، فقال له عبدالرحمن: لا حاجةَ لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوقُ قينقاع، قال: فغدا إليه عبدالرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغُدوَّ، فما لبث أن جاء عبدالرحمن عليه أثرُ صُفرة (أي: عطر)، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "تزوجت؟"، قال: نعم، قال: "ومن؟"، قال: امرأة من الأنصار، قال: "كم سُقْتَ؟"، قال: زِنَةَ نواة من ذهب، فقال له النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَوْلِمْ ولو بشاة".
فنسأل الله تعالى أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، ونعوذ به من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، ومن غلبة الدَّين وقهر الرجال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.