من جليل نعم الله، والتي تخفى على كثير من الخلق: نعمة التوفيق؛ إذ هو مِنحةٌ منَ الكريم لا تُسدَى لكلِّ أحد، ولا يقدر عليها إلا من وفقه الله لها، قال شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(هود: 88).
وللتوفيق علامات تدل عليه:
فأول علامات التوفيق: أن يوفقك الله للإيمان والإسلام، فهي أكبر النعم وأولاها وأعلاها، وهي أجل النعم وأعظمها ولا يفوقها نعمة؛ لأنه محض اختيار من الله لك من بين عالم يموج بالكفر.. قال تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} .. ولولا الإيمان لما صلح عمل ولا قبلت قربة ولا طاعة لأن الشرك محبط لجميع الأعمال كما قال تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}، {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}.. وقال سبحانه عن أهل الكفر: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه ههباء منثورا}(الفرقان:).. فينبغي للعبد أن يقدر هذه النعمة قدرها ويجتهد في شكر الله عليها.
ومن التوفيق: أن يوفّقك الله للحرص على العلم والتفقه في دينه فتتعلم الأحكام، وتعرف الحلال والحرام، وتبحث عن مرضاة الله، وأن تتلذذ بطلب العلم وحضور حلقه ومجالسه، وتستأنس بسماعه، ولا تتضجر وتنفر بل تسعى إليه وتطلب الزيادة منه؛ ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله وعليه وسلم قال: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)(رواه البخاري).
ومن التوفيق: أن يوفقك الله لعمل الخير بكل أشكاله وعلى اختلاف أنواعه:
فيجعل لسانك ذاكرا، تتنقل من ذكر إلى ذكر، ومن قرآن إلى استغفار إلى تهليل إلى تسبيح،
وأن يوفقك للأعمال المالية من صدقات وزكوات ونفقات، وكفالة أيتام، وإحسان للفقراء والأرامل والمساكين، واستعمال مالك في بناء المساجد وحفر الآبار وطباعة المصاحف وفعل الخيرات.
وأن يوفقك للأعمال البدنية من صلوات وصيام وحج وجهاد، ومساعدة المحتاجين، وإعانة الضعفاء.
وفي حديث أبي بكرة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله)
ومن علامات التوفيق: أن يوفقك الله لنشر الخير والدين، والدعوة إلى الله ودلالة الخلق عليه وتحبيبه إليهم؛ وتحبيبهم إليه، فإن هذه مهمة الأنبياء والرسل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت: 33).
ومن علامات التوفيق: أن يوفقك الله لمحاسبة نفسك مرة بعد مرة، فتجدد نيتك وتصححها، وتحسن أعمالك وتتقنها، وتنظر في أخطائك فتصلحها، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (الكيِّسُ مَن دان نفسَه) أي حاسبها (وعمِل لما بعد الموت)(رواه أحمد والترمذي).
وقال عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
ومن علامات التوفيق: أن يوفق الله قلبك للتعلق به سبحانه، فترضى على أقداره، وتشكره على نعمه وأفضاله، وتقوم بواجب عبادته وحق طاعته، وتتوكل عليه وتنيب إليه، وتطرح قلبك بين يديه، فيحميه من التعلق بالدنيا والخلق، بل ترى الناس كلهم إنما هم آلات بين يديه يجري بهم أقداره، كما قال الشاطبي:
يعد جميع الناس مولى لأنهم ... ... على ما قضاه الله يجرون أفعلا
فالله سبحانه وحده حسبه وكافيه، وهو سبحانه مالك أمره والمتصرف فيه، نافذ فيه حكمه، لا يرد أحد قضاءه، ولا يعقب أحد على حكمه، ولا يغلب أحد أمره.. بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فهمه أن يحقق عبوديته لله، ليحقق الله كفايته له: {أليس اللهُ بكافٍ عبده}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه}.
ومن علامات توفيق الله للإنسان: أن يجعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه، ولا يجعل الدنيا همه وشغله وغايته، وإنما هي ممر لدار المقر، ومعبر يعبر عليه إلى الآخرة والجنة دار الخلود، وهذا من نعم الله العظيمة، التي ينشرح بها الصدر وتطمئن بها النفس، ويجتمع بها الشمل؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ، وجمعَ لَه شملَهُ، وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ له)(صحيح الترمذي).
ومن علامات التوفيق: أن يوفقك الله لسرعة التوبة والأوبة والإنابة والندم عند وقوع الخطأ أو الزلل، فإذا أذنب العبد أو عصى وفقه لسرعة التوبة والرجوع إليه، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتائب محبوب إلى الله تعالى، يسعى في مراده ومحابه {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا)[النساء:27]، وقال سبحانه: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
ومن علامات التوفيق: أن يوفقك الله لخدمة الناس والسعي لقضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم، وبذل المعروف إليهم، وهذه نعمة لا تتيسر لكل أحد، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لخلقه، من خلال جاهه، أو من خلال ماله، أو من خلال منصبه، أو حتى بشفاعته لهم.. فهذا من أحب الناس إلى الله.
وقد روى الطبراني في معجمه الأوسط والصغير عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ فقال: أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل، سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة، أحبُّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهرا).
ومن علامات التوفيق أن يتولى الله أمرك، ولا يكلك إلى نفسك، فقد أجمع العارفون على أن التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).
نسأل الله أن يتولانا برحمته ومنه، ويجعلنا من الموفقين.