قال أبو عبيد: هكذا قال الأصمعيُّ، وأنا أَحْسَبُه العُصَيَّة من العَصَا، إلَّا أن يُرَاد أنَّ الشيء الجليل يكون في بَدْء أمره صغيرًا، كما قالوا: إنَّ القَرْم من الأفِيل، فيجوز حينئذٍ على هذا المعنى أن يقال: العَصَا من العُصَيَّة.
قال المفَضَّل: أوَّل من قال ذلك الأفْعَى الجُرْهُميُّ، وذلك أن نِزَارًا لمَّا حَضَرَتْه الوفاة جَمَعَ بنيه مُضرَ وإيادًا وربيعةَ وأنمارًا، فقال: يا بَنِيَّ، هذه القُبَّة الحمراء — وكانت من أَدَم — لمضرَ، وهذا الفرس الأدهم والخِبَاء الأسود لربيعة، وهذه الخادم — وكانت شَمْطَاء — لإيادٍ، وهذه البَدْرَة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فإن أُشْكل عليكم كيف تقتسمون فَأْتُوا الأفعى الجرهمي ومنزلُه بنَجْران.
فتشاجروا في ميراثه، فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم في مسيرهم إليه إذ رأى مُضَر أثَرَ كلأٍ قد رُعِيَ فقال: إنَّ البعير الذي رَعَى هذا لَأعْوَر، قال ربيعة: إنه لأزْوَرُ، قال إياد: إنه لأبْتَرُ، قال أنْمارٌ: إنه لَشَرُودٌ.
فساروا قليلًا فإذا هم برجل يُنْشِد جَمَله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعْور؟ قال: نعم، قال ربيعة: أهو أزْوَر؟ قال: نعم، قال إياد: أهو أَبْتر؟ قال: نعم، قال أنمار: أهو شَرُودٌ؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدُلُّوني عليه، قالوا: والله ما رأيناه، قال: هذا والله الكذبُ، وتَعَلَّق بهم وقال: كيف أصَدِّقكم وأنتم تَصِفون بعيري بصفته؟.
فساروا حتى قَدِموا نَجْرانَ، فلما نزلوا نادى صاحبُ البعير: هؤلاء أَخَذوا جَمَلي ووصَفوا لي صفته، ثم قالوا: لم نَرَهُ، فاختصموا إلى الأفْعَى، وهو حَكَم العرب، فقال الأفعى: كيف وصفتموه ولم تَرَوْه؟ قال مضر: رأيته رَعَى جانبًا وتَرَك جانبًا فعلمتُ أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثَر والأخرى فاسدته؛ فعلمت أنه أَزْوَر؛ لأنه أفسَده لشدةِ وَطْئه لازْوِرَاره، وقال إيادٌ: عرفت أنه أبتر باجتماع بَعْره، ولو كان ذَيَّالًا لَمَصَع به، وقال أنمار: عرفت أنه شَرُود لأنه كان يرعى في المكان الملتَفِّ نَبْتُه ثم يَجُوزُه إلى مكانٍ أرقَّ منه وأخبث نَبْتًا؛ فعلمت أنه شَرُود. فقال للرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.
ثم سألهم: مَنْ أنتم؟ فأخبروه، فرحَّب بهم، ثم أخبروه بما جاء بهم، فقال: أتحتاجون إليَّ وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم فَذَبَحَ لهم شاةً وأتاهم بخَمْرٍ، وجلس لهم الأفعى حيث لا يُرَى وهو يسمع كلامهم، فقال ربيعة: لم أَرَ كاليوم لحمًا أطيبَ منه لولا أنَّ شاته غُذِيَت بلبن كلبة، فقال مضر: لم أرَ كاليوم خمرًا أطيَبَ منه لولا أنَّ حُبْلَتَها نبتتْ على قَبر، فقال أنمار: لم أرَ كاليوم كلامًا أَنْفَعَ في حاجتنا من كلامنا، وكان كلامُهم بأُذُنِ الأفعى الجرهمي فقال: ما هؤلاء إلا شياطين.
ثم إن الأفعى الجرهمي دعا القَهْرَمَان فقال: ما هذه الخمر؟ وما أمرها؟ قال: هي من حُبْلَةٍ غرستُها على قبر أبيك لم يكن عندنا شرابٌ أطيبُ من شرابها، وقال للرَّاعي: ما أمر هذه الشاة؟ قال: هي عَنَاقٌ أرضَعْتُها بلبن كلبة، وذلك أنَّ أمها كانت قد ماتت ولم يكن في الغنم شاةٌ ولدتْ غيرها.
ثم خرج الأفعى إليهم، فقصَّ القومُ عليه قصَّتهم وأخبروه بما أوصى به أبوهم، فقال: ما أشْبَهَ القبة الحمراء من مال فهو لمضر، فذهب بالدنانير والإبل الحمر، فسُمِّي مضر الحمراء لذلك، وقال: وأما صاحب الفرس الأدهم والخِباء الأسود فله كل شيء أسود، فصارت لربيعة الخيل الدُّهْم، فقيل ربيعة الفَرَس، وما أشبه الخادمَ الشَّمْطاء فهو لإيادٍ، فصار له الماشية البُلْق من الحَبَلَّق والنَّقَد فسُمِّي إياد الشَّمْطَاء، وقضى لأنمار بالدراهم وبما فَضَل فسُمِّي أنمار الفضل.
فصَدَروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العُصَيَّة، وإن خُشَيْنًا من أخْشَن، ومُسَاعدة الخاطل تُعدُّ من الباطل، فأرسلهنَّ مُثُلًا، وخُشَيْن وأخشن جَبَلاَن أحدهما أصغر من الآخر، والخاطل الجاهل، والخَطَل في الكلام اضطرابه، والعُصَيَّة تصغير تكبيرٍ مثل: أنا عُذَيْقُها المُرَجَّبُ وجُذَيْلُها المُحَكَّكُ، والمراد أنهم يُشْبهون أباهم في جَوْدة الرأي، وقيل: إنَّ العصا اسم فرس، والعُصَيَّة اسم أمه، يراد أنه يَحْكِي الأم في كَرَم العِرْق وشرف العِتْق.