مما لا شك فيه أن السخاء من شيم الكرام، وأصحابه محمودون في الدنيا والآخرة، وهو خلق يستر الله به عيوب صاحبه إن كان به عيوب، قال الشاعر:
ويُظهر عيبَ المرء في النّاس بُخلُه … ويستره عنهم جميعا سخـاؤه
تـغــطّ بأثــــواب السّــــخــاء فــإنّني …أرى كلّ عيب بالسّخاء غطاؤه
فما هو السخاء؟
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: السّخاء بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض.
وقال الماورديّ- رحمه الله تعالى-: حدّ السّخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل إلى مستحقّه بقدر الطّاقة.
وإذا كان السخاء بهذا المعنى فلا شك أنه يتفاوت من إنسان لآخر؛ ولهذا فإن السخاء درجات.
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: (إذا كان السّخاء محمودا فمن وقف على حدّه سمّي كريما وكان للحمد مستوجبا، ومن قصّر عنه كان بخيلا وكان للذّمّ مستوجبا.
والسّخاء نوعان: فأشرفهما سخاؤك عمّا بيد غيرك، والثّاني سخاؤك ببذل ما في يدك، فقد يكون الرّجل من أسخى النّاس، وهو لا يعطيهم شيئا لأنّه سخا عمّا في أيديهم، وهذا معنى قول بعضهم:
السّخاء أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا).
وقال ابن قدامة المقدسيّ- رحمه الله تعالى-:
(اعلم أنّ السّخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السّخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه.
وأشدّ درجات البخل، أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشّهوة فيمنعه منها البخل.
فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثر على نفسه مع الحاجة. فالأخلاق عطايا يضعها الله- عزّ وجلّ- حيث يشاء. وليس بعد الإيثار درجة في السّخاء. وقد أثنى الله- تعالى- على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيثار، فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} (الحشر: 9) ، وكان سبب نزول هذه الآية قصّة أبي طلحة، لمّا آثر ذلك الرّجل بقوته وقوت صبيانه).
الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الأسخياء:
فقد روى البخاري رحمه الله في باب حسن الخلق والسخاء..عن جابر رضي الله عنه قال: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قط فقال: لا".
وروى مسلم رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
نماذج من سخاء الصالحين:
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم سادة الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، ولقد كانوا رضي الله عنهم يتأسون بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ومن ذلك جوده وسخاؤه.
وقد ذكر العلماء من ذلك شيئا كثيرا، وعلى سبيل المثال:
روى الإمام مالك- رحمه الله تعالى- عن مولاة لعائشة- رضي الله عنها-: أنّ مسكينا سأل عائشة وهي صائمة، وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إيّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه. فقالت أعطيه إيّاه. ففعلت، فلمّا أمسينا، أهدى لها أهل بيت أو إنسان- ما كان يهدي لها شاة وكفنها (أي ما يغطيها من الأقراص والرّغف) فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا. هذا خير من قرصك.
وذكر ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق أن محمّد بن المهلّب- رحمه الله تعالى- قال: بعث مروان وهو على المدينة ابنه عبد الملك إلى معاوية فدخل عليه فقال: إنّ لنا مالا إلى جنب مالك بموضع كذا وكذا من الحجاز، لا يصلح مالنا إلّا بمالك، ومالك إلّا بمالنا، فإمّا تركت لنا مالك فأصلحنا به مالنا، وإمّا تركنا لك مالنا فأصلحت به مالك، فقال له: يا ابن مروان: إنّي لا أخدع عن القليل ولا يتعاظمني ترك الكثير، وقد تركنا لكم مالنا فأصلحوا به مالكم.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد بلغ درجة عالية من السخاء حتى إنه كان يقول: ما أدري أي النعمتين أعظم عليّ مِنّةً: من رجلٍ بذل مُصاص وجهه إليه فرآني موضعاً لحاجته، وأجرى الله قضاءها أو يسّره على يديّ، ولأن أقضي لامرئٍ مسلمٍ حاجةً أحبّ إلي من ملء الأرض ذهباً وفضةً.
وكان يقول: إذا أقبلت عليك الدّنيا فأنفق منها فإنّها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: إذا مات السّخيّ، قالت الأرض والحفظة: ربّ تجاوز عن عبدك في الدّنيا بسخائه.
وقال محمّد بن المنكدر- رحمه الله تعالى-: كان يقال: إذا أراد الله بقوم خيرا أمّر عليهم خيارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي سمحائهم.
ومن عجائب الأسخياء:
ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله تعالى- فقال:
(خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخل لقوم فيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط (الحديقة) كلب، فدنا من الغلام فرمى إليه قرصا فأكله، ثمّ رمى إليه قرصا آخر فأكله، ثمّ رمى إليه ثالثا فأكله، وعبد الله ينظر. فقال: يا غلام كم قوتك كلّ يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: إنّ أرضنا ما هي بأرض كلاب، وأظنّ أنّ هذا الكلب قد جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت ردّه، قال: فما أنت صانع؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: أُلام على السّخاء وهذا أسخى منّي!!. فاشترى الحائط وما فيه من الآلات واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له).
وقال أيضا: (اجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم أرغفة معدودة لا تكفيهم فكسروا الرّغفان، وأطفأوا السّراج، وجلسوا للأكل، فلمّا رفع الطّعام إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا لأصحابه).
وقال الشّافعيّ- رحمه الله-: (لا أزال احبّ حمّاد بن سليمان لشيء بلغني عنه، أنّه كان ذات يوم راكبا حماره، فحرّكه فانقطع زرّه، فمرّ على خيّاط، فأراد أن ينزل إليه ليسوّي زرّه، فقال الخيّاط: والله لا نزلت، فقام الخيّاط إليه فسوّى زرّه، فأخرج إليه صرّة فيها عشرة دنانير فسلّمها إلى الخيّاط واعتذر إليه من قلّتها). وأنشد الشّافعيّ- رحمه الله- لنفسه:
يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلّين من أهل المروءات
إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي، لمن إحدى المصيبات
وقال الغزاليّ- رحمه الله تعالى-: (اعلم أنّ المال إن كان مفقودا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة، وقلّة الحرص، وإن كان موجودا فينبغي أن يكون حاله الإيثار، واصطناع المعروف، والتّباعد عن الشّحّ والبخل، فإنّ السّخاء من أخلاق الأنبياء- عليهم السّلام- وهو أصل من أصول النّجاة).
وأخيرا ، قال إبراهيم اليشكريّ منشدا:
يقول رجال قد جمعت دراهما … وكيف ولم أخلق لجمع الدّراهم
أبى الله إلّا أن تكون دراهمي … بذا الدّهر نهبا في صديق وغارم
وما النّاس إلّا جامع أو مضيّع … وذو نصب يسعى لآخر نائم
يلوم أناس في المكارم والعلا … وما جاهل في أمره مثل عالم
لقد أَمِنَت منّي الدّراهم جَمعَها … كما أَمِن الأضيافُ من بخل حاتم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.