كانت معركة أحد معركةً عظيمة في تاريخ الإسلام والمسلمين، مع أن المسلمين خسروا فيها خسارة كبيرة، ولكن عظمتها كانت في الدروس والعبر التي أخذها المسلمون منها بعد ذلك؛ فقد أنزل الله تعالى بعد المعركة تعقيبًا، فيه بيان أسباب ما حدث في المعركة من الهزيمة، وتوجيهٌ وهداية للمسلمين في مثل هذا الـمُصاب، قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]، وكان مما أنزله جل وعلا هذه الآية على رسوله صلى الله عليم وسلم: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، وهذه الآية تنفي عن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه أن يخون أحد منهم، أو يأخذ شيئًا بغير حقه، وتتوعد كل من يغلَّ شيئًا أنه يكلف يوم القيامة أن يأتي به.
والغُلُول بالمعنى الخاص: هو الأخذ من الغنيمة سرًا قبل قسمتها، وبالمعنى العام: هو مطلق الخيانة، وقد حذر النبي صلى الله عليم وسلم أمته في غير ما حديث من الغُلُول، سواء منه الخاص أم العام، فقال صلى الله عليم وسلم في غلام له غلَّ شيئًا من الغنيمة قبل قسمتها: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتي أصَابَهَا يَومَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عليه نَارًا؛ فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذلكَ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليم وسلم بشِرَاكٍ -أوْ بشِرَاكَيْنِ- فَقَالَ: هذا شَيءٌ كُنْتُ أصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليم وسلم: شِرَاكٌ -أوْ شِرَاكَانِ- مِن نَارٍ».
وكان صلى الله عليم وسلم يحاسب عماله الذين يبعثهم لجمع الصدقات والزكوات، فاستعمل مرة على جمع الصدقات رجلًا من الأزد، يقال له ابن اللتبية، فلما رجع الرجل قال لرسول الله صلى الله عليم وسلم: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليم وسلم: «فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى له أَمْ لَا؟ والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ منه شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ، إنْ كانَ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ بيَدِهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا».
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قَامَ فِينَا النبيُّ صلى الله عليم وسلم فَذَكَرَ الغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وعَظَّمَ أمْرَهُ، قَالَ: «لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، علَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، يقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أبْلَغْتُكَ، وعلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، يقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شيئًا قدْ أبْلَغْتُكَ، وعلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ لا أمْلِكُ لكَ شيئًا قدْ أبْلَغْتُكَ، أوْ علَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أبْلَغْتُكَ»، إلى غيرها من الأحاديث التي تحذر من أخذ أي شيء خلسة، أو خيانة.
ومن القواعد الأصولية في استنباط الأحكام من الأدلة: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، تُذكر هذه القاعدة إذا ما ظُن أن الحكم مقصور على سببه، لا يتعداه لغيره من المكلفين، فكيف يكون الحال إذا ما كان الدليل عامًا بلفظه، كهذه الآية التي بين أيدينا: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، فقوله تعالى: {مَنْ} لفظ عام جامع، وليس خاصَّا بأحد دون غيره، بل يدخل فيه كل مكلف إلى يوم القيامة، فكل مكلف غلَّ شيئًا؛ يكلَّف يوم القيامة أن يأتي به، أيَّاً كان ذلك الشيء، سواء كان دابةً، أم شبر أرض، أم مالًا، أم غير ذلك، والإتيان بمثل ذلك يوم القيامة من المحال، بل لقد قال صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة: «فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ»، إنما يُقضى في المظالم يومها بالحسنات والسيئات؛ وعلى هذا يتبين أن الـمُراد بهذه الآية إنما هو التهديد والوعيد، فما غلَّه المرء يتعلق برقبته أي بذمته، يؤديه لصاحبه من حسناته، أو من سيئات صاحبه.
وأكثر من يقع منهم الغلول زماننا هذا أرباب الوظائف، سواء كانت جهات عملهم عامة، أم خاصة، وسواء كان الموظف مديرًا، أم دونه، ويكون ذلك على صور، فإما أن يغل الموظف من مال الدولة، أو من جهة عمله أيَّاً كانت، أو من حقوق بعض الموظفين عنده، أو أن يغل أموال الناس عمومًا، إما بالرشاوى الظاهرة، أو بأخذها باسم الهدايا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهديَّةُ إلى الإمامِ غُلولٌ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ».