فتح "الانفجار الرقمي"، والارتفاع المتزايد لمستعملي الإنترنت، والبحث الدؤوب لتحقيق أعلى نسب للمشاهدة والنقر، من خلال السعي وراء الإثارة "الحصرية" والفرجة الجماعية، وبالتالي تحصيل أكبر ربح مادي، الباب أمام المواقع الإلكترونية لتقديم بضاعتها التي تحقق لها هذا المراد دون أدنى تقييم فني أو بحث عن الأثر الإيجابي الناتج، ضاربة عرض الحائط بضوابط ووظائف الرسالة الإعلامية وأهدافها.
لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ـ على سبيل المثال: برنامج التيك توك، واليوتيوب، وكييك، وسناب شات، وإنستجرام، وغيرها الكثير ـ عوالم جاذبة لأغلب المتصفحين ـ على مستوى جميع الأعمارـ، وباتت أماكنهم الأكثر أريحية واستقطابا، يتهافت عليها الجميع لكسر جمود الحياة اليومية وصراع لقمة العيش المضني؛ولذلك فقد تم الترويج لهذه المواقع بسهولة وبساطة مستغلين بذلك أسلوب الحياة العصرية السريعة.
عبث ومهازل أخلاقية
ومن يتابع هذه المواقع سيرى بكل وضوح كمية الترهات والأعمال السخيفة والفارغة والتافهة التي تعرض عليها، فإنه يتم نشر آلاف بل ملايين الفيديوهات والعروض الترفيهية المنوعة والتي تستهدف في أغلبها الجيل الجديد، جيل الرقميات والحداثة التكنولوجية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. بل أصبحت هذه المواقع "تبدع" في كل مرة وتتفوق على نفسها في إنتاج مواد "إعلامية أو ترفيهية" صادمة، بالنظر إلى حجم التفاهة والعبث الذي تذهب إليه وفي أحايين أخرى الحضيض الذي تنزل إليه، دونما أي انشغال بالقضايا الحقيقية التي تهم حياة المواطنين في العالم.
وجعلت هذه المواقع من الفضيحة والإثارة واستغلال مآسي الناس ومعاناتهم، من خلال الخوض في حياتهم الخاصة والتشهير بهم، ونشر فيديوهات تخترق خصوصياتهم وحياتهم، بل أحياناً يبلغ الأمر حد محاكمتهم علناً أمام سلطة الشارع، حتى أصبحت هذه السلوكيات وسيلة تقتات منها الكاميرا ومادة تتكسب منها تلك المواقع، لا ينظر فيها إلا كونها تحقق أرقام مشاهدات عالية، ومردودية مالية.
واستغلالا لرغبات المتابعين لهذه المواقع في البحث عن الجديد والغريب، ونتيجة لهذا التهافت الملفت لمتابعة كل ما هو غير مألوف واعتيادي، أصبح تسخيف المحتوى الإعلامي على تلك المنصات أشبه بضرورة ملحة وكلمة السر لنجاحها يراها القائم على صناعتها لتلقي الاهتمام المناسب والكافي.
إن من أكبر مساوئ متابعة هذه الحسابات أن أغلب من يتابعها أو يشاهد تلك الفيديوهات المنشورة فيها ـ والتي تسفر عن سطحية مفرطة ـ يشعر بالامتلاء والتشبع من الأخبار الهامشية والفقيرة، ويصبح نتيجة ذلك غير مستعد لمتابعة أخبار مصيرية مهمة وأحداث حيوية تناقش حياته وأحوال بلاده، بمعنى أنها تحول متابعها إلى إنسان مهمش يعيش خارج واقعه، وينشغل عن مهمات حياته.
إضافة إلى ذلك فإن هناك معركة أيديولوجية واختراقا صارخا لأخلاقياتنا وعاداتنا وتقاليدنا، يتلازم يدا بيد ويتماشى خطوة خطوة مع الاستغراق الكامل لهذه المواقع التي تعمل بالخفاء لتتلاعب بموازين مجتمعاتنا المحافظة.
يقول مهاتير محمد ـ رئيس الوزراء الماليزي السابق ـ في كتابه "الإسلام والأمة الإسلامية": "الإعلام له أجندته الخاصة في الوقت الحالي؛ لأنه يريد تشكيل العالم، وليس العالم أو فكر قادته هو الذي يشكل التغطية الإعلامية. إن ما تراه وسائل الإعلام أو ما تعتبره صحيحا للعالم، هو الذي تعتد به الآن وتأخذه في الحسبان".
ومن نتائج تلك المتابعة الدائمة أنها تجعل أغلب المتابعين يعيش حياة ازدواجية ما بين الواقعية والافتراضية.. وكثير منهم يقوم بتقليد تلك المشاهدات ومحاكاتها من قبل الكبار قبل الصغار بلا اهتمام بالمعايير الأخلاقية المجتمعية، والقيود القانونية رغبة في الشهرة أو وسيلة للهرب من واقع محبط أليم.
ومن النتائج للأسف الشديد ـ أن "صنعة" السخافة والتفاهة أصبحت بضاعة رائجة، وبات البعض أحيانا يتصنع الجنون، والآخر يتصنع البلاهة، وآخرون يتصنعون (العظمة) ويمارسون الخفّة في أتعس مفرداتها، ووجدنا بعض من ينتسبون إلى الفن، يعيشون ذات الدور، في نرجسية وكبرياء بليد، ظنا منهم أن المال يصنع الاحترام والاهتمام والذكاء والخلود.. كل ذلك بغية الحصول على متابعين، وتحقيق شهرة زائفة، تخفي خلفها "عقولا فارغة"، ومستوى فكريا غير متوازن ومستقر. ولكنها تستهوي جماهير عريضة خصوصا في سوق العرب، وإن كانت غالبيتها تتابع للوناسة والضحك والتسلية!
إن تسطيح الفكر وتهميش العلم والجد والعمل، من آثار هذا الاستغراق، فالمشكلة أكبر من مجرد اختراق إعلامي أو مخالفة لأخلاقيات المهنة، إنها أكبر من ذلك في الواقع، فالعلماء والمفكرون والأطباء وأصحاب المواقع الجادة، سواء على تويتر أو الانستجرام أو سناب شات مثلا، تجد من يتابعهم ـ ليستفيد من أفكارهم وآرائهم وعلمهم ـ قلة قليلة، في الوقت الذي تجد متابعي "مروجي التفاهات" بعشرات الآلاف وربما مئات الآلاف، وهو مؤشر غير إيجابي على الإطلاق.
وواحدة أخرى خطيرة من عواقب متابعة هذه المواقع المفتوحة بلا قيود، أنها أصبحت وسيلة للإغراء والإفساد، ومحلا لاستعراض الأجساد، ومرتعا للدعوة للفواحش ونشر الفجور؛ وهذا ما نشاهده حقيقة، عري فج، وممارسات لا أخلاقية تمارس وتشجع عليها بحجة "الحرية الشخصية"، ولكنها تضرب في الصميم في أخلاقيات المجتمعات المسلمة وتهدم كل المبادئ والقيم للمجتمعات المحافظة.
تنبيه هام
أولا: لابد أن نقول إننا هنا لا نعمم، ولكن نؤكد بأن هناك منصات تقدم فكرا رائعا ومضمونا نافعا، وأفرادا تحرص على الجدية والمصداقية والسلامة الاجتماعية ولكنها قليلة وبلا تأثير ولا يكاد يسمع لها صوت في خضم هذا الموج العاتي والضجيع العالي.
ثانيا: إن مقاومة هذا النوع من وسائل الإعلام إنما يكون أولا بنشر الوعي وبيان الآثار المدمرة لمتابعة هذا الهراء، مما يحرم أصحاب هذه المواقع من نسبة كبيرة من المشاهدات، وبالتالي فقدان مبالغ كبيرة مما تدره عليهم، فلولا أنهم وجدوا من يشجعهم على هذا الفساد لتراجعوا عنه.
على الآباء والأمهات تحصين الأجيال القادمة من هذه اللوثة، كما عليهم تطعيمهم ضد تلك الجراثيم والأوبئة.
ازرعوا فيهم روح الإبداع والجدية واحترام العقل والإنسان.
انزعوا من قلوبهم أي تعاطف مع من يحاربنا بلساننا وبأسمائنا.
ينبغي تفعيل قوانين الإعلام في مجتمعاتنا، لحفظ إرث يُحارَب ويشوّه من الداخل أكثر منه من الخارج؟
ثالثا: أننا لسنا ضد الاستمتاع وحب الاستطلاع والاستكشاف، ولكننا ضد تسخيف المحتوى الإعلامي ليناسب بعض العقليات السطحية، وليستدرج الشباب المراهق للمخاطرة بالقيام بتحديات غير اعتيادية وبالأغلب خطرة.. أو ليكون منبرا لنشر أفكار دخيلة ومنحلة تعبث بأيديولوجية وفكر الشباب المسلم.
ـــــــــــــــــــــــــ
من المصادر:
"التفاهة الرسالة الجديدة": سوسن صالح.
"صناعة التفاهة": إبراهيم الشيخ.
"منابر العبث": هشام أبو علي.