إنَّ مِن الحِرمانِ العظيمِ والخسرانِ المبين أَنْ يكونَ العبدُ في حياتِهِ وبعدَ مماتِهِ مجردَ رقمٍ في قائمةٍ طويلةٍ منَ البشرِ، ليسَ لهُم وزن في قيمِ الأخلاقِ ولا يُشكِلون َثِقلًا في مسيرةِ السلوك، فهيَ البصمةُ الباقية في عمرِكَ واللوحةِ الأخيرةِ من حياتِكَ، فاصنع لنفسِكَ أثرًا يكونُ لك بعدَ مماتك، فكيف سيكونُ رحيلُك؟ وما الذي خلفتَهُ وراءك؟ هل تركتَ ثمرًا يدومُ عطاءُهُ وذكرًا حسنًا أم شوكًا يستمِرُ وخزَهُ وذِكرًا سيئًا؟
وقبلَ الإجابةِ ينبغي أنْ نعيَ أنَ اللهَ خلقَ الخلقَ متباينين، وكما أنهم مختلفونَ في الألوانِ والأحجامِ، كذلك هم مختلفون في الصفاتِ والطِباعِ والسلوكِ والأخلاق، ولم يجعلْ اللهُ طبعًا جبليًّا أو خُلُقًا فطريًّا فحسب بحيثُ يعجزُ الإنسانُ عن تغييرِ طبعهِ أو تعديلِ سلوكِهِ أو لا يتمكنُ من تزكيةِ نفسهِ، ومنِ الغريبِ أن يغادرَ المرء دنياهُ دون أن يتركَ لهُ بصمةً يُثنى عليها ويُقتدى بها، والأغربُ من ذلك أن يتركَ شرًا محضًا كالسمعةِ السيئةِ كالحاصلِ في السوشل ميديا من سبٍ ولعنٍ والطعنِ في الأعراضِ والسخريةِ والتشهير، فقد يغفرُ اللهُ لعبدهِ لتقصيرِهِ بينهُ وبين ربه ولكن حقوق البشر تبقى معلقةً في رقبةِ العبدِ يوم القيامة، فيجبُ أن يدركَ هؤلاء أن أثارهُم السيئة مدعاةً لبغضِهم والدعاءِ عليهم مّمن اكتوى بنارِ سلوكِهم، ناهيكَ أن منِ الخلقِ سيحييها ويمارسها ويروجُ لها، قال تعالى: (( لِيحمِلوا أوزارَهُم كاملةً يومَ القيامةِ ومن أوزارِ الذينَ يُضِّلّونَهُم بغيرِ علمٍ أَلا ساء ما يزِرون)) [النحلِ:25 ].
إن السيرةَ الحسنةَ والأثارَ الطيبة هي عمرٌ ثاني ويشكلُ رغبةً لدى الآخرين في محاكاتهِ وحبًا في الاتصاف بهِ والترحمِ عليهِ بعدَ مماتهِ، فهي كنزٌ لا يقتسِمُهُ أهله بل يستفيدُ منهُ القريبُ والبعيد، وتركتُهُ لا يقتَسِمُ أنصبتُها ورثتهُ فقط ، بل يجني أسهمها من انتفعَ بها فأثارَهم لا زالت ترسمُ صورةً ذهنيةً للمجتمع وإن كانت أجسادهم واراها الثرى يذكرونها ويحتذون بها، فهوَ استمرار للعطاءِ وبقاءِ الخير وتدفعُ بالمجتمعِ إلى المحافظةِ على الباقياتِ الصالحات والتمسكِ بمكارم الصفات قال تعالى: ((من عمِلَ صالِحًا من ذكرٍ او أُنثى وهو مؤمنٌ فلنحييَّنهُ حياةً طيبةً ولنجزيَنهُّم أجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يعملون)) [النحل:97]، فليس لحياةِ الإنسان قيمة دون أن يترك لهُ أثرًا بعد رحيلِهِ بخلافِ الناجحِ فإنهُ يدرك كيف يصنعُ لهُ مجدًا تليدًا وتاريخًا زاخرًا.
ومن الشخصياتِ التي برزت في عصرنا الحاضر هو الشيخ عبد الرحمن السميط ولد في الكويتِ عام 1947 ميلادي، وكان ملتزمٌا بالصلاةِ من صغرهِ وكان يحبُ القراءة فكان يقرأُ سيرةَ الرسول وأصحابهِ العظام والسلف الصالح فنشأَ على حبِ هذا الدين الذي يصنعُ من محبيهِ رجالًا عظامًا قلَّ نظيرهم في التاريخ، وفي أثناءِ دراستهِ لمرحلةِ الثانويةِ لاحظَ العمال وهم ينتظرون المواصلاتِ العامةِ تحت لهيبِ شمس الكويت المحرقة، فقررَ هو وزملاءهِ جمع المالِ ليشتروا سيارةِ لنقلِ العمال من العملِ إلى منازلهم بدون أي مقابل ابتغاء وجه اللهِ تعالى، ثم جاءت مرحلة الجامعة فدرس البكالوريوس في الطب في العراق َ والماجستير في بريطانيا والدكتوراه في كندا وقرر العودة للكويتِ ليعملَ بها طبيبًا، إلا أن زوجته الصالحةِ أشارت عليهِ أن يشتغلا في مجالِ الدعوةِ إلى اللهِ في شرقِ آسيا، فشاء اللهُ وقدرَ أن يستقرا في أفريقيا في مدينةِ ملاوي وسبب ذلك طلب أحدى النساء الخيراتِ بناءِ مسجد خارج الكويت وبالفعلِ قام بتلبيةِ رغبتها، فصُعِقَ ممَّا رآهُ فوجدَ الكثير من المسلمين لا يعلمون كيفيةِ الوضوء ولا تعاليم الإسلام في حينِ رأى نشاط المنصرين الأُوربيين وقد نجحوا في تنصيرهم فقررَ السميط هو وزوجته المكوثَ هناك للدعوةِ إلى اللهِ تعالى، فتركا الحياة المترفة واستقرا في إحدى القرى النائية في جزيرةِ مدغشقر في قريةِ مدكارى في بيتٍ متواضع، وشكلَ فريقًا من الدعاةِ والأئمةِ لينشروا الإسلام في دولِ القارةِ السمراء بعدَ أن دربَهم على طرقِ الدعوةِ الحكيمة وأساليب التعامل مع الثقافات المختلفة فانتشرَ تلاميذهُ في أدغالِها وفيافيها فتكونت لهُ شبكةً متكاملة من الشبابِ المخلصين الذين كانوا يتنقلون من قريةٍ إلى قريةٍ مشيٍ على الأقدامِ لنشرِ الإسلام بين شعوبها فقد أسلمَ على يدِهِ أعداد هائلة وساهم في إنشاءِ المساجد ما يقارب 5700 مسجد بالإضافةِ إلى رعايةِ الأيتام وكفالتهم فقد كفلَ 15000 يتيم وحفر أكثر من 9500 بئر ارتوازي وأنشأَ 860 مدرسة وبنى 4 جامعات وأنشأَ 204 مراكز إسلامية ولقد أنشأَ جمعية وأسماها العون المباشر لينتفعَ منها الجميع سواءً كان مسلمين أو نصارى أو وثنيين، رحمكَ اللهُ يا أبا صهيب وأسكنك فسيح جناته . قال تعالى : ((إنا نحنُ نحيِي الموتى ونكتُبُ ما قدَّموا وآثارَهُمْ وكل شيء أحصيناهُ في إِمامٍ مبين)) [يس:12].
متى تتركُ أثَرَك يامن أنعمَ اللهُ عليكَ بالإسلام؟ وكفى بها نعمة يامن أضاء أجدادُكَ للعالمِ ظلمتِهِ وصنعوا حضارةً سطرها التاريخ أوَما راعك حال أمتك؟ أوَما أفزعك إن كانت الدنيا لغيرِكَ يعبثُ بها؟ ويجعلها سِلاحًا يصوَبُ نحو صدور أُمتك، أَلست الأحق في السبقِ لحرفةِ البناءٍ؟، انهضْ ودعْ عنك أغلال الخمول وتعرف على هويتِك وانظُر إلى ماضي أُمتِك تستلهِمُ منه جذوةً تُضيءُ لك الطريق، فحَّي على العملِ وضع بصمتُكَ في الحياةِ فما هيَ إلا أنفاس تُعدُّ وتحصى لا تدري متى يتوقفُ لها العدُ والإحصاء، حينئذ لن يبقى لك فيها إلا أثرك فإن لم يكنْ لك طوى التاريخُ صفحتَك وإن كان لك وقفوا على أعتابِها.